قابلت الشيخ الغزالي مرات عديدة وفي مناسبات عدة علمية وأكاديمية عرفت فيها الشيخ العالم المكافح المجاهد، إذا تكلم قال المعاني الكبيرة في عبارات مفعمة بالروح والحياة، لما لا وهو قد كتب النصوص الحرة وأطلق قذائف الحق بلا هوادة ولا مواربة، كتاباته تتميز بأسلوب أدبي بارع يصفه البعض بالحدة وقالوا إن كلامه حاد، فرد البعض إن كلامه حار، يتسم بالكفاحية والحياة، ليس بفائض كلام ولا لغة خشبية.
استطاع الشيخ الغزالي أن يقوم بتشريح نفسية الاستبداد، وشرح نفسية المستبد وشبكة علاقاته ونفسية الجماعة المحيطة به في التملق والنفاق، وبدا في كشفه لشبكة الاستبداد النفسية مستلهما فكرة الاستبداد والقابلية للاستبداد، في إطار من قانون الاستخفاف “فاستخف قومه فأطاعوه”، وقدم في هذا الإطار تحليلا عميقا ودقيقا لهذه الشبكة الخبيثة للاستبداد السياسي والتي نحت لها مصطلحا خاص أسماه “الوثنية السياسية” فجعل مواجهة الاستبداد شعبة من إقامة التوحيد وتمكين مقاصده وأكد على أن مقاومة الاستبداد من الدين، كان ذلك منه تمثلا لرؤية التوحيد التي تجعل من ذلك أوثانا تعبر عن شرك بالله وأن التخلص من ذلك الشرك في باب الوثنية السياسية هو تخلص من أوثان تمكنت من الإنسان وكانت محل عبادته ونتجت عن ذلك شجرة الاستبداد الخبيثة.
ذاق الغزالي مرارة الاستبداد مستضعفاً أسيراً مهدور الحقوق في معتقل الطور، فوضع بذرة كتابه هذا من خلال دروس ألقاها على بعض زملاء الأسرى، ثم نشره بحثاً متكاملاً بعد خروجه من السجن، يقول عن كتابه أنه رأى أن من واجبه أن يقض مضاجع البغاة ويبصر الضحايا الغافلين بعواقب تراخيهم وكسلهم وأن يسير على درب من ضحوا بأنفسهم نصرة للحق معلناً أن الحق الذي يعتز بتضحياتهم لن يهتز بعد رحيلهم، كذلك أراد الغزالي كتابه تعويضاً عما يراه غياباً لدور العلماء في توعية المجتمع والوقوف في وجه المستبد ونزواته، إما لغموض عندهم في التصور الإسلامي لأسلوب الحكم أو لإيثارهم السلامة نائين بأنفسهم عما يغضب السلطان، بل يرى أن بعضهم تجاوز ذل السكوت إلى عار التملق، فأصبحوا يصنعون الفتاوى المكذوبة لتسويغ مآثم الحاكم، فيشوهون ضمائر العباد ويسيئون للإسلام ويرفعون الثقة عن العاملين للدين. الكتاب من أشهر كتب الغزالي، طبعت نسخته الأولى عام 1949 وصدر قرار بمصادرته فور نشره وقدم الغزالي للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة على إثره.
تكتنف الحكم المطلق صفات تجعل من الفرد المتسلط جباراً لا دين له، فكيف يحكم ووظيفته في الإسلام حراسة الإيمان في القلوب وحراسة الفضائل في المجتمع وحراسة المصالح العامة في حياة الأمة؟؟، أولى هذه الصفات هي صفة الكبر، حيث أن استبداد الرأي يورث الحاكم غروراً ثم تكبرا ثم تألهاً. والتوحيد في الإسلام جاء لمعالجة كل الوثنيات بما فيها “الوثنية السياسية” فلا يتأله عبد على عبد والجميع سواء، تتبعه صفة الرياء حيث ينبت الرياء في ظل الكبر، إذ كلما زاد استكبار الحاكم زادت مراءاة من حوله له، فانقلبت الحقائق وتواطأت أكتاف المنكر وراجت سلعة الكذب. وليس ثمة شك في أن هذا مناف لتعاليم الإسلام الذي جعل صلة الدولة بالأمة كريمة نقية فالحاكم والمحكوم كلاهما مبتغ لوجه الله راغب في أداء حق ربه، فلا يشغلهما إلا أن يخدم دينه إماما أو مأموما، أي ساوى الإسلام بين هدف الحاكم والمحكوم ثم توعد بشدة الإمام الجائر وعيداً يجعل الحكم مسئولية هائلة جسيمة لا باباً للمتعة والمجد، فلا تصير السلطة مطلباً تتنازع عليه القبائل وتفنى لأجله الرجال”.
كنت قد كتبت في كتاب تأميم الدولة للدين يعبر عن دور السلطة المستبدة في الاعتداء على مفهوم الدين وحياضه حتى تغتصبه وتؤممه لمصلحتها كان ذلك فعلا من السلطة المستبدة في استخدام الدين شكلا وتوطيد معنى الوثنية السياسية جوهرا، وفي هذا الإطار لقضية الاستبداد التي تحدث فيها الغزالي عن ذلك التحليل لنفسية المستبد من جهة ونفسية الجماهير من جهة أخرى، بين الكبر والتملق تولد شجرة الاستبداد الخبيثة، ويترافق مع ذلك رؤية للكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ليسند ذلك في شبكات الاستبداد في كافة المناحي في التربية والدين، في الجندية والمتمجدين في الأخلاق وغيرها. وبدا للبعض أنه يتحدث عن التفسير المؤسسي لشبكة الاستبداد فيتعرف على بنياته وشكل مؤسساته وعلاقاته فبدت هذه الزاوية المختلفة.
زاوية التحليل النفسي الفردي والجماعي، والتحليل الأخلاقي والتربوي، والتحليل المؤسسي والبنيوي حتى تتكامل صورة الاستبداد وتفسير تحكمه، غاية الأمر في ذلك أن دعوة مثل هذه والتي كان يؤكد عليها الحكيم البشري في كثير من لقاءات التقيته بها من ضرورة تأسيس علم الاستبداد، يحرص للتعرف على طبيعته وعلى شبكيته كما يحرص على تفكيكه ومواجهته، هذا العلم صار من الأهمية أن يواكب علم السياسة فيما تفرضه الثورات العربية والثورات المضادة، إنها قضية كبرى تتعلق بعملية التغيير والنهوض إذا ما أردنا أن نسلك الطريق الذي يتطلب نفسا طويلا لتفكيك شبكة الاستبداد والقضاء على منظومته، وتمكين طرق وأدوات الإصلاح.
إن علة العلل التي يؤكد عليها الشيخ الغزالي علة الاستبداد وهي التي تولد كل ما يتعلق بأمراض الأمة على تنوعها والتي ينخر في كيانها ويضعف شبكيتها ويقضي على تماسكها ويؤدي إلى تفرقها وفوضاها حتى يظل المستبد راسخا في فساده وإفساده في بيئة من الفرقة والفوضى يصنعهما على عينه، حتى يمكنه إلقاء في روع الناس “أنا أو الفوضى”، “أنا وبعدي الطوفان”، “أنا الدولة”، كل تلك الكلمات إنما تشكل شعار المستبدين على تنوعهم، يحاولون من كل طريق تكريس استبدادهم واستمرارية سلطانهم من خلالها .
مئة عام على مولده ليشكل الغزالي حينما كتب في علم الاستبداد تحليله النفسي الرصين ليشكل حلقة في سلسلة السند الحضاري والرحم العلمي والفكري والمعرفي والثقافي لنفهم بحق المقولة التي شاعت في تراثنا “العلم رحم بين أهله”، بدا الغزالي كما أشرنا آنفا يكتب نصه الحر ضمن نصوص حرة لتأسيس علم الاستبداد، فنظم الكلام الحر وطرد عنه كل لفظ عبد وأي معنى عبد، فالحر لا يكتب إلا نصا حرا، المستبد في حقيقة أمره مشروع خيانة، والطغاة الجدد يجلبون عتاة الغزاة الجدد، وهنا قد نتوقف عند معنى بعينه بعد قراءة كتاب الإسلام والاستبداد السياسي ذلك النص الحر للشيخ الغزالي، فتعلمت عليه كثيرا عن علم الاستبداد وحرارة اللغة التي يكتب بها الغزالي وغزارة المعاني الذي يفيض بها نصه، تعلمت منه وعنه الكثير، أقول من علمني حرفا عزيزا في معانيه كريما في مقاصده صرت به حرا.