الآن ينهض القضاء المصري بدور الغيستابو مع النازية، فهل فكر أحد من المعنيين برصد ومتابعة جرائم نظام الانقلاب في ملاحقته قضائياً أمام المحاكم الدولية؟
افعلوا شيئاً، أو اهتفوا: الحرية لعبد الفتاح السيسي والموت للجماهير.
نص المقال:
هذه واحدةٌ من نوادر الطغيان، أن يزفّ نظامٌ، يدعي القوة الباطشة والسيطرة الغاشمة طوال الوقت، إلى الجماهير نبأ استهداف وزيري الدفاع والداخلية بهجوم صاروخي في سيناء.
كان الاحتفاء بالخبر مبالغاً فيه بكل وسائل إعلام السلطة.. بيانات تفصيلية للمتحدّث العسكري، ولقطات تلفزيونية للوزيرين في حالة ذعر ووجوم لدى عودتهما من الموت في مروحية، وصور للجنرال الحاكم مترئساً مجلس دفاعه الوطني، يتم التركيز فيها على نظرات وزير الدفاع.
ليس عادياً هذا الإفراط في الحديث عن محاولة اغتيال الأطراف الأقوى داخل نظامٍ يعتمد الترهيب أسلوباً وحيداً للسيطرة على الجماهير، ومن ثم كان السؤال المحجوب: ماذا بعد هذه الدراما الفاقعة؟ وأي استثمار منتظر من السلطة لحادثٍ بهذه الضخامة، انفردت وحدها بسيناريو وإخراج عرضه؟
من ناحية: عادت جوقة العزف على أوتار زعيم الضرورة، وضرورة الزعيم، وإلا ستفنى البلاد ويهلك العباد، من خلال استطلاعات رأي مجمّدة، أخرجوها من أرفف ثلاجات الاستقصاء، وقدّموها بالتوابل اللازمة للجماهير، ليعلنوا أن الغالبية الكاسحة، أو كسيحة الوعي، أجبرت الجنرال على ترشيح نفسه لدورة رئاسية جديدة، رغم أنفه.
ثم كانت عملية تشغيل روبوتات السلفية الجامية، على طريقة رجال الكنيسة قبل الثورة الفرنسية، ليعلنوا عدم مشروعية إجراء انتخابات رئاسية، وحرمانية منازعة الحاكم (بأمر الإله وتفويضه) أو منافسته، أو إرغامه على الدخول في منافسة.
غير أن الاستثمار الأكبر كان تشغيل ماكينة الإعدام، ليتم الإعلان، أمس، عن تنفيذ عملية حصد أرواح خمسة عشر مواطناً، كلهم من سيناء، دفعة واحدة، ليتبيّن أن التوسع في تغطية محاولة اغتيال الوزيرين، في عاصمة سيناء، كان بمثابة الضرورة الدرامية، للوصول إلى هذه النقطة في القاع السحيق لمنظومة القتل الحاكمة في مصر.
أحد ضحايا مجزرة إعدامات الأمس، أحمد عزمي حسن عبده، طبيب أسنان معتقل منذ 2014 ومعه شقيقه، تم إدراجهما فيما عرفت بقضية “أنصار بيت المقدس” لم يحصل، مثل آلاف غيره، على محاكمة عادلة، في ظل الغياب الكامل لمفهوم العدالة في مصر، ومع تحويل القضاء إلى مجرّد منصّة لقراءة القرارات السياسية، والأمنية.
ومن دون أدنى افتراء أو مبالغة من معارضي النظام، يتطوّع القضاء لإدانة نفسه، بنفسه، حين يقرّر تدمير الأساس، غير الأخلاقي، الذي أقيمت عليه منظومة الإبادة والتصفية والقتل العشوائي، منذ يوليو/تموز 2013، وذلك بإعلان سقوط أم الأكاذيب التي أنشئت عليها المقتلة الشاملة، وهي أن اعتصام رابعة العدوية أقيم فوق بحيرةٍ تمتلئ بالجثث، تلك الأكذوبة التي روّجها إعلاميون ومثقفون وسياسيون، بإيعاز من السلطة، كي يتسنّى لها ارتكاب مجزرة الفض بالقوة، لانتشال الجثث المخبأة تحت أقدام المعتصمين، وإنقاذ الآخرين من مصيرٍ مماثل، وكانت النتيجة أن النظام أعدم آلافاً من البشر، في مقتلةٍ جماعية، شاهدها العالم على الهواء مباشرة، تحت زعم إنقاذ الدولة، في لحظةٍ أصيب فيها الضمير الحقوقي بالعطب، باستثناءاتٍ محدودة، على رأسها رجل اسمه أحمد سيف الإسلام حمد، قال كلمة حق ومات، فاستحقّ عقاب السلطة، بعد رحيله، بافتراس ابنه الوحيد وابنته الصغرى، في زنازين النظام.
ولو كنا في عالمٍ يحترم العدالة، وينتصر للإنسانية، لكان كل الذين افتروا وحرّضوا على فض اعتصام رابعة العدوية بالقوة الغاشمة، أمام المحكمة الجنائية الدولية، بعد اعتراف النيابة العامة بعدم وجود جثث أو أسلحة ثقيلة، بتهمة ارتكاب جريمةٍ ضد الإنسانية، كون هذه كانت أم الجرائم التي تولدت عنها كل الفطائع اللاحقة، وصولاً إلى إعدام الأبرياء بلا محاكمات حقيقية.
الواقع على الأرض يقول إن مصر محكومةٌ الآن بسلطة تشبه كثيراً سلطة “الغيستابو” في عصر النازية، تلك السلطة التي كانت تقتل وتعذب وتنفي، تحت شعار”حماية الدولة”، وبعيدًا عن المساءلة القانونية. وكما وصف قاض ألماني أفعاله “طالما تتحرّك الغيستابو بمشيئة الحزب، فإن حركاته وأفعاله قانونية”.
الآن ينهض القضاء المصري بدور الغيستابو مع النازية، فهل فكّر أحد من المعنيين برصد ومتابعة جرائم سلطة الانقلاب في ملاحقتها قضائياً أمام المحاكم الدولية؟ وإذا كانوا قد فكّروا، فهل قاموا بما يجب القيام به في هذا الصدد، أم أنهم مستغرقون في الصراع على جيفةٍ في المنفى؟
افعلوا شيئاً، أو اهتفوا: الحرية لعبد الفتاح السيسي والموت للجماهير.