منذ أن أصدر المتحدث العسكري بيانه المقتضب الخاص بنجاة وزيري الدفاع والداخلية من محاولة الاغتيال التي استهدفتهما، لم نطالع أي كلمة رسمية عن الحادث، بشكل أثار الريبة، فأطلق الناس لخيالهم العنان، فلم نعد نعرف حدود الحقيقة، لتبدأ آفاق الخيال المطلق من عقاله!
الخبر، بحسب البيان المقتضب للمتحدث العسكري، هو أن الطائرة التي كانت تقل الوزيرين في زيارة تفقدية للجنود في سيناء، تعرضت لتفجير صاروخي، فلقي أحد الضباط مصرعه، بيد أن ما تردد أن ثلاثة ضباط على الأقل قد استشهدوا في هذه العملية، تردد أن أحدهما هو القائد الشخصي لطائرة وزير الدفاع، والثاني هو حارسه، أما الثالث فهو مدير مكتبه، دون تعليق رسمي ينفي هذا أو يؤكده.
راعني أن بيان المتحدث العسكري قد وصفه بـ”الحربي”، وعندما سألت، علمت أنه كان مطاراً مدنياً
الحادث كان في “مطار العريش”، وقد راعني أن بيان المتحدث العسكري قد وصفه بـ”الحربي”، وعندما سألت، علمت أنه كان مطاراً مدنياً، بيد أن الجيش وضع يده عليه، منذ أن دخل المعركة ضد المسلحين هناك، منذ أكثر من أربع سنوات، أغلقت فيها سيناء في وجه الإعلام، فلم يعد الرأي العام مطلعاً على ما يجري هناك، وعقب كل حادث يطل علينا عبد الفتاح السيسي ليعلن نهاية الإرهاب، والبدء في تعمير سيناء خلال فترة قليلة (يحددها) فينسي وعده الذي لا يكترث به الناس، لكثرة وعوده الكاذبة، لكنهم يتذكرونه عندما يطل عليهم بوعد آخر بعد حادث جديد.
وآخر هذه الوعود، كان عقب حادث مسجد “الروضة”، عندما وجه أمراً عسكريا لرئيس أركان الجيش بأن يُنهي الإرهاب في سيناء في ثلاثة أشهر، ليكون مسؤولاً أمامه عن هذا مع وزير الداخلية، في موقف استعراضي يسعى به العسكريون للتأكيد للمدنيين على أهمية الانضباط العسكري، حيث يأمر القائد بلبن العصفور فيقول التابع سمعاً وطاعة.. فات هؤلاء العسكريون الغشم أن هذا الاستعراضات لها ذكريات أليمة في نفوس المصريين؛ لأنها تذكرهم بجمال عبد الناصر عندما طلب من وزير حربيته عبد الحكيم عامر أن يستعد للحرب، فقال الأخير “برقبتي يا ريس”، ثم كانت هزيمة حزيران/ يونيو 1967، كاشفة عن حجم المأساة التي كانت تحكم مصر، من قيادات عسكرية لا تفرق بين ما هو مدني وما هو عسكري!
في إدارة الدول، فإن ما فعله عبد الفتاح السيسي مع رئيس أركان جيشه هو جريمة، فالدول لا تدار بقيم الوحدات العسكرية، فيصدر صاحب الرتبة الأعلى أوامره لمن هم دونه، فتكون الإجابة: تمام أفندم، وبصوت “مقدم مقاتل هيثم قائد خط البلطي”. فالأمر كان يستدعي وضع الخطط، واستعراضها، ومناقشتها، ليحدد بمقتضاها الفترة الزمنية لتنفيذ المهمة. وليس هناك أمر يصدره القائد، ليكون من سينفذ الأمر العسكري مسؤولاً أمامه، فالأصل أن السلطة التنفيذية تكون مسؤولة أمام البرلمان، لكن بإقرار السيسي نفسه، فإنه يدير شبه دولة، وليست دولة لنتحدث عن تقاليد إدارة الدول!
غياب رئيس الأركان عن مرافقة الوزيرين في مهمة العمل بسيناء، يمثل علامة استفهام
فإذا سلمنا بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فإن غياب رئيس الأركان عن مرافقة الوزيرين في مهمة العمل بسيناء، يمثل علامة استفهام، وأمراً يحتاج إلى رد. صحيح أن رئيس أركان الجيش لا يحضر مع وزير الدفاع دائماً، لكن الأمر مختلف في هذه الزيارة. فهو المكلف رسمياً بهذا الملف، وحضوره مع الوزيرين، من هذه الزاوية طبيعي، وغيابه يُلزم بتوضيح أسبابه. فهل يفسر هذا بأنه تجاوز من وزير الدفاع لصلاحيات الرجل، وتطاولاً على الاختصاص المنعقد له بالأمر الشفهي للسيسي في يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي؟!
ومهما يكن، فإن من استهدفا بالقتل، ليسا وزيري الأوقاف والبيئة، فهما من “سدنة المعبد”، ومن “أركان الحكم”. ولأنه حكم يقوم على القوة فقط، وليس فيه من ملامح الأنظمة الطبيعية إلا امتلاك القوة، وإساءة استخدامها، فإن الوزيرين بالتالي يكونان الركن الركين لهذه القوة، فعندما يتم استهدافهما على هذا النحو. فنحن أمام عملية عسكرية تطعن في شرعية هذا الحكم في الصميم، وهو الذي لا يعرف إلا القوة، منذ إسقاط الرئيس المنتخب، والوصول للسلطة على ظهر دبابة!
فالزيارة غير معلنة، فكيف وصل الخبر إلى التنظيم المسلح، فيستعد بإطلاق صاروخ على طائرة الوزيرين، قبل أن يصعدا إليها بلحظات؟.. هل يعني هذا أننا أمام سلطة مخترقة من قبل المسلحين، بحيث يمكنهما الوصول إلى “خط تحرك” وزيري القوة؟!
عندما تستهدف الجماعات المسلحة من يملكون “القوة المسلحة” بهذه الجرأة، فإن الحديث عن المواجهة لا يعدو أن يكون “فض مجالس”، إن صح نسبة هذا الحادث للمسلحين؟!
وبمناسبة الحديث عن “القوة”، فقد شاهدنا عبد الفتاح السيسي في خطابين مختلفين، بعد حادث مسجد “الروضة”، يتحدث عن أنه سيواجه الإرهابيين بـ”القوة الغاشمة”، وهو الوصف الذي كرره وألح عليه، مع أنه مسكون بطاقة سلبية. فالقوة الغاشمة تنتمي للعصابات وليس للدول، لكن لا بأس. فقد كرر السيسي تهديدها بها، فلم تكن “زلة لسان”، ولم يكن عدم وعي منه بمدلول الوصف!
وعندما تستهدف الجماعات المسلحة من يملكون “القوة المسلحة” بهذه الجرأة، فإن الحديث عن المواجهة لا يعدو أن يكون “فض مجالس”، إن صح نسبة هذا الحادث للمسلحين؟!
فالمتابع للسيوشيال ميديا؛ سيقف على أن الرأي العام، لا يسلم بأن ما جرى هو من فعل المسلحين، وإن أذاعت وكالة “رويترز” اعترافاً من قبل تنظيم الدولة بمسؤوليته عن الحادث. يقولون إن هذا التنظيم اعترف بارتكابه حوادث كثيرة، مع أنه لم يرتكبها. والحال كذلك، فلا بد من الدعوة لوقف إغلاق عبد الفتاح السيسي لسيناء في وجه الإعلام، فلا نعرف ماذا يجري هناك، وعلى مدى أكثر من أربع سنوات، لا سيما وأنه لم ينجح إلى الآن، كما يكون من حقنا أن نطالب بلجنة تقصي حقائق من شخصيات مستقلة، ليس فقط في التحقيق في هذا الحادث، ولكن بالإضافة إلى هذا في الوقوف على ما يجري في سيناء، وحقيقة وجود المسلحين فيها وأعدادهم، وقد أعلنت أجهزة السيسي أنهم مئات، فإذا بالقتلى من جانبهم يصلون إلى الآلاف!
ولماذا في كل حادث، نتجاهل فرضية الموساد، وفرضية قوات دحلان؛ التي لم نسمع أن أحد أفرادها أصيب في أي عملية منذ الهروب إلى سيناء بعد المواجهة مع حركة حماس!
ومهما كان الجاني، فنحن أمام فشل مزري، من رجل استدعى الإرهاب وفشله في مواجهته. فعندما اختطف السلطة، لم تكن مصر عرفت الإرهاب باعترافه، فقد طلب تفويضا لمواجهة ما أسماه بـ”الارهاب المحتمل”، فإذا بالمحتمل يصبح واقعاً!
ومع كل هذا الفشل، فإن عبد الفتاح السيسي يطمع في الاستمرار في السلطة، ربما ليؤكد فشله باعتباره المعنى الدال على الكفاح الفاشل!