فجر أمس الثلاثاء، التحق أحمد جرار بوالده الشهيد نصر جرار على درب الشهادة، كأنها الحكاية ذاتها تعيد نفسها، مع فارق التفاصيل، فقد قاتل كلاهما حتى استشهد، ولم يسلّم.
حين استشهد الأب نصر جرار في العام 2002، كان أحمد في السابعة من عمره، وها إنه يلتحق بأبيه بعد 16 عاما، هو الذي نفذ عملية قتل مستوطن بسلاح خفيف، وحين داهمه جيش جرار، لم يسلّم، وقاتل حتى لقي ربه. دولة كاملة مدججة بأحدث أنواع التكنولوجيا طاردته بلا هوادة، وكانت للعيون الساقطة، ومن ورائها التعاون الأمني أدوار في المطاردة أيضا.
حكاية الأب الشهيد، هي واحدة من أروع الحكايات التي تستحق أن تستعيدها الأجيال بلا انقطاع. هنا ثمة بطولة لا يحركها سوى الإيمان العميق، وإرادة لا يصنعها سوى اليقين.
بطل هذه الحكاية هو الشهيد نصر جرار . . . جعفر الطيار الجديد، كما أطلق عليه إخوته، ذلك الذي حمل الراية شابا صغيرا في ميدان الجهاد، وحملها أسيرا في باستيلات العدو، وحملها مجاهدا من أجل الفقراء، ثم حملها مرة أخرى مع الاستشهاديين، ثم في المعتقلات مرة أخرى وأخرى، ثم في ميدان القتال حيث فقد كلتا قدميه وإحدى يديه، ومع ذلك لم يلق الراية التي تشتعل بنبض روحه الوثابة، فواصل الدرب حتى لحظة الشهادة.
في اليوم الأول من العام 1958 ولد نصر جرار في وادي برقين/ جنين، وبعد إكمال الثانوية، وبمبادرة فردية، قام بعملية جريئة ضد باص صهيوني كلفته حكما بالسجن لمدة عشر سنوات.
في السجن، التحق بما عُرف بـ”الجماعة الإسلامية” داخل السجون الإسرائيلية، ثم أفرج عنه بعد إكمال مدته في العام 1988. ومباشرة التحق نصر بحركة “حماس” التي تأسست، وهو في السجن، عمل نصر في لجان الزكاة، وهناك أحبّ الفقراء وأحبوه، وفي المساجد كان داعية لدينه وصوتا حرا من أصوات الجهاد في سبيل الله، وهو ما أقلق الصهاينة الذين اعتقلوه في العام 1990 لشهر كامل ذاق فيها أشد أنواع التعذيب، إلا أن صموده حال دون تثبيت التهم والحكم عليه، فخرج بعد شهر من الاعتقال.
في العام 1994 وبعد مجزرة الحرم الإبراهيمي، كان لنصر جرار دور في عمليات الرد عليها، ما أدى إلى اعتقاله وخضوعه لتعذيب شديد، ولكنه صمد هذه المرة أيضا، ولم يحصلوا منه على أي اعتراف، ولكنهم كانوا موقنين بأنه “متورط” في العمليات، فصاروا يجددون له مدد الاعتقال الإداري واحدة إثر الأخرى، حتى جاء عليه وقت كان فيه أقدم معتقل إداري في السجون الإسرائيلية حيث مكث أربعة أعوام ونصف العام.
خرج في العام 1998 مواصلا طريق الجهاد، وحين انطلقت انتفاضة الأقصى، التحق بركب البطولة فيها دون تردد.
في العام 2001، وبينما كان يقوم بزراعة قنبلة في طريق إحدى دوريات العدو، حدث خلل أدى إلى انفجارها. هنا روى الشهيد ما حدث معه بالقول: “ارتفعت عاليا من شدة الانفجار، وسقطت على الأرض وإحدى يديّ، ورجلي معلقتان بجسدي بقطعة من الجلد، فقمت بالتخلص منهما لأسهّل على نفسي عملية الزحف، إذ انني أصبت قرب منطقة عسكرية، ثم قمت بإطفاء النار التي اشتعلت في جسدي بزجاجة من البيبسي وجدتها في المنطقة، ولقد كان من لطف الله أن النار التي اشتعلت في جسدي عملت على لئم الجراح، وإيقاف النزيف، وأكملت بعدها الزحف للوصول إلى الشارع الرئيس”.
عندما وصل إليه بعض إخوته، فوجئوا بأنه حي يتكلم، وكان يرشدهم كيف يتعاملون مع جسدة المحترق بكل ثقة وهدوء.
فقد نصر إحدى يديه ورجليه، ثم قطعت رجله الثانية، بيد أن ذلك لم يثنه عن مواصلة الجهاد وتدريب المجاهدين على صناعة المتفجرات والمشاركة في تخطيط العمليات؛ وقد ذهبت الدوائر الصهيونية إلى أنه كان قبل اغتياله يُعدّ لعملية كبيرة ضد إحدى ناطحات السحاب.
عندما حاصرت القوة الصهيونية المنزل الذي كان فيه وثلاثة من رفاقه، طلب منهم الانسحاب لعدم وجود فرصة لمقاومة الدبابات والجرافات المحصنة، وقد رفض أن ينشغلوا بمحاولة حمله معهم؛ لأن ذلك قد يعني استشهادهم جميعا، فبقي وحده يقاتل بيد واحدة، حيث جرى هدم المنزل عليه ولقي ربه شهيدا. كان ذلك في 14/8/2002.
نصر جرار، ومعه ابنه أحمد، من رايات البطولة التي زرعت في تراب فلسطين، ودم رائع سيسقي شجر الكرامة فيها.
سلام على نصر جرار، وعلى ابنه أحمد، وعلى كل الشهداء قبله ومن سيأتون بعده إلى يوم الدين.