العقل ملكة من ملكات الإنسان، شبهه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (450 – 550 هـ ، 1058 – 1111م) بنور البصر، وشبه الشرع بالضياء. فمن لديه عقل بلا شرع فهو مبصر يسير في الظلام، ومن لديه شرع بلا عقل فهو أعمى يسير في ضوء النهار، فلا نفع عنده بالضياء.

ثم ختم هذا التصوير الفني بقوله: “فالعقل مع الشرع نور على نور”.

وكما أن لكل إنسان حظا من العقل، فلم تخل حضارة من الحضارات من النزعة العقلانية في الفكر والاعتقاد وتدبير الاجتماع.

لكن.. هل تتمايز الحضارات في الموقف من العقل، وفي مناهج استخدام العقول؟؟

إن للمستشرقة الألمانية “سيجريد هونكه” (1913 – 1999م)، وهي من عباقرة الاستشراق، رأي في الإجابة على هذا السؤال، ميزت فيه بين العقل اليوناني القديم وبين العقل المسيحي الذي ساد في ظل هيمنة الكاثوليكية على أوربا في عصورها الوسطى وبين العقل الإسلامي.

“فالعقل اليوناني الإغريقي: عقل تأملي، يتجنب الخبرة الملموسة، مثلما ينكر على الرجل العمل اليدوي، الموكول للعبيد فقط، يحلق في مملكة الأفكار العامة والقوانين، ويذعن للصيغ الفكرية الهندسية المجردة، ولأشكال الفضاء المثالية.. والمادة الطبيعية لدى حكماء اليونان: نقيضة لله تماما، والفلك والفيزياء والكيمياء والطب وعلم الحيوان والنبات اليونانية، تبقي على الراجح فلسفية”.

أما نظرة الكنيسة الكاثوليكية الأوربية للعقل، فإنها نبعت من قول “بولس”: “إن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله، والرب يعلم أن أفكار الحكماء باطلة!”، ومن قول “ترتوليان” (155 – 222 م): “بعد مجيء المسيح لا يجوز البحث في العلوم، ففي الإنجيل الكفاية”!.. “ففضول العقل إثم فاحش! والأكل من شجرة المعرفة هي الخطيئة التي هبطت بالإنسان إلى الأرض”!.. وكما يقول “بولس”، فإن الرب قال: “سأبدد حكمة الحكماء، وأنبذ معرفة العارفين.. ويوجد مكتوب: أريد أن أهدم حكمة الحكماء وأحطم عقل العقلاء، وإن الغباء الموجود في الوجود اختاره الله، وهذا يسيء إلى الحكماء”.

“أما العقل الإسلامي، فإنه يحتفل بالواقع الحقيقي، بينما نرى العقل الهندي يحتفل بالناحية الذاتية كل الاحتفال، خلافا للفكر اليوناني الذي ينتقل طفرة من الجزئي إلى الكلي، ومن الحقائق المفردة إلى الفكرة المجردة. أما المسلمون، فقد سلكوا نهجا وعرا، صعودا من أسفل الدرج في تسلسل تاريخي يتغلغل دنيا الحقائق العلمية كل منها على حدة، المنهج التجريبي القائم على الرصد والملاحظة دون ملل أو كلل، والقياس والمعادلات والحلول الرياضية والترقي في صبر وكبد من الخاص إلى العام. ولئن كان اليوناني، في جوهره، من فلاسفة الطبيعة (مع وجود استثناءات)، فإن المسلم قد غدا عالم الطبيعة بالمعنى الحرفي للكلمة، ومخترع علم الطبيعة التجريبي. ولقد عبَّد المسلم بآلاته حقول العلم البكر الوعرة تعبيدا، ومهد طرق البحث تمهيدا. وبفضل هذا الفرق، كان المسلمون أكثر من مجرد وسطاء للتراث اليوناني، أكثر من سعاة بريد للقديم، فلم يرتضوا أن يرددوا كالببغاء معارف القدماء، وإنما ابتكروا شيئا خاصا وجديدا”.

هكذا كان ويكون الحال مع “العقل والعقلانية”، تتفاوت فيها حظوظ الناس، وتتمايز مناهجها بتمايز الحضارات، الأمر الذي يدعونا إلى إعادة قراءة تراثنا العلمي والفلسفي، وإعادة قراءة تراث الاستشراق، لندرك حقيقة التمايز بين الحضارات، فنستلهم ما هو مشترك عام، ونحافظ على الخصوصيات التي تميز حضارتنا الإسلامية عن غيرها من الحضارات. 

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي الجورنال