الصورة التي جمعت بين الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي والرئيس عبد الفتاح السيسي وهم على طاولة العشاء ـ وحدهما ـ في مطعم بمول شهير في أبو ظبي انتشرت على نطاق واسع منذ أمس ، وعلق كثيرون عليها ، ما بين مرحب بالبساطة التي ظهرت عليها الجلسة وبين من اعتبرها محاولة لتقليد القادة الغربيين في تبسطهم في الحركة واللقاءات ، غير أن تلك “العزومة” قلبت علي المواجع بقدر ما حركت من الأسئلة والملاحظات 

هل يمكن أن نشهد في القاهرة موقفا مثل هذا ، بأن يدعو السيسي ضيفه ، سواء كان مصريا أو أجنبيا ، على عشاء أو غداء في أحد مطاعم القاهرة الشهيرة أو في أحد المولات الكبرى التي انتشرت في أحيائها ، بعيدا عن صولجان الحكم والفشخرة التي بدأ العالم كله يتجاوزها في السنوات الأخيرة بينما البعض ما زال ينفخ فيها ويتوسع في بهرجها ، هل يمكن أن نرى السيسي جالسا في مطعم أو مقهى بدون العضلات المفتولة المستعرضة في خلفية الصورة والمسدسات المشهرة والملامح الامبراطورية . هل يمكن أن يجلس السيسي تلك الجلسة في أحد مولات القاهرة دون أن يتم تفريغ المطعم بل والمول بكامله من رواده واستلامه من قبل الحرس الجمهوري قبلها بيومين على الأقل ، فضلا عن تفريغ الشوارع المحيطة بالمول على امتداد عدة كيلومترات من السيارات والمارة ، ناهيك عن ترتيبات تستمر طوال يومين على الأقل قبلها لتأمين أسطح جميع المنازل القريبة من المكان بمحيط لا يقل عن خمسة كيلومترات وجمع معلومات عن كل أو أغلب المقيمين في تلك المنطقة ، من أجل تأمين “عشاء” السيد الرئيس . هل لاحظ السيسي بعد نزول طائرته في مطار أبو ظبي أن الشيخ محمد بن زايد “زرع” له آلاف من المواطنين الإماراتيين من رجال شرطة ومباحث وغيرهم على جانبي الطريق ، كل عشرة أمتار ، وعلى امتداد عشرين كيلومتر من المطار وحتى مكان نزوله ، مغروسين في البرد والشرد كجذوع النخل منذ منتصف الليلة السابقة وحتى موعد نزول طائرته ، لمجرد عمل “منظر” أو تشريفة له ، في مشهد مهين لأي بشر ومهين للدولة نفسها حيث يعطي رسالة للعالم عن مدى احترامها للإنسان والمواطن فيها . لماذا لم تظهر في الصور “القبضايات” وأصحاب العضلات المفتولة وهم يضعون المسدسات في خواصرهم ينظرون شذروا في كل اتجاه من وراء نظاراتهم السوداء ، فضلا عن مئات الرتب من اللواءات والقيادات الأمنية من كل لون التي تننشر وتتبعثر في جنبات المكان في استعراض للرهبة لا شأن له بالأمن والتأمين ، رغم وجود عمليات تأمين عالية بطبيعة الحال في المكان ، ولكن أغلبها غير منظور ، وهل لاحظ السيسي أن الهدف هو “التأمين” وليس الاستعراض على الناس والترهيب وإظهار التجبر والفرعنة والإذلال للمواطنين . أنا لن أستحضر هنا الصورة التي نشرت أمس على نطاق واسع أيضا لرئيس جمهورية النمسا وهو يركب المترو متوجها إلى عمله حيث التقط لاجئ جزائري صورة سيلفي له مع فخامة الرئيس وهو يقف في المترو ، حيث لم يجد فخامة الرئيس كرسيا يجلس عليه ، ولم يفكر أي مواطن من الجالسين أن يقف ويجلسه مكانه ، لن أستحضر تلك الصورة الحالمة ، لأن بيننا وبينها قرونا من التحضر والإنسانية والعدل والإيمان بقدسية الكرامة الإنسانية . هل لاحظ السيسي أن الشيخ محمد بن زايد حاول أن يبدو بسيطا وعاديا مثل أي مواطن عادي حتى وهو يستقبل رئيس دولة كبيرة مثل مصر ، رغم أنه يجلس على ثروة تمثل أكثر من عشرين ضعف الاحتياطي النقدي لمصر (حوالي ثمانمائة مليار دولار) والتزاماته أمام شعب محدود العدد لا يتجاوز المليونين باستثناء المقيمين الأجانب ، ومع ذلك يتبسط في سلوكه ويحاول أن لا يستعرض بالثراء الفاحش ، بينما في مصر الفقيرة والغارقة في الديون والتي تملك احتياطيا نقديا متواضعا ونصفه ديون وقروض وتحمل على كاهلها عبء مائة مليون مواطن يعانون بؤس الحياة وشظف العيش وغياب الصحة والتعليم والبنية الأساسية السليمة ، تعيش قيادتها في مهرجانات البهرجة والفخفخة والترف الزائد كل عدة أسابيع ، لمجرد المنظرة وإعطاء انطباعات زائفة عن الثراء والقوة والقدرة والعظمة ، هل لاحظ الفرق ؟ .