جسدت كلمة الدكتور محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، أمام محكمة الجنايات يوم السبت؛ تناقض المواقف من القدس والقضية الفلسطينية بين الثورات والثورات المضادة، حيث قال الدكتور بديع إن قضية فلسطين هي قضية الأمة العربية والإسلامية بأكملها، وقضيتنا الأولى، ولا يعنينا أن يحكم علينا بالإعدام؛ لأننا محبوسون بهدف تمرير صفقة القرن، ووجه بديع نداء إلى “كل المرابطين وإلى عموم الأمة الإسلامية”، قائلا: “لن تقوم لكم قائمة إلا أن تنصروا فلسطين والقدس”. واختتم حديثه لرئيس المحكمة: “أنتم تسجنون أسودا أخرجونا من السجن، ونحن سنحرر فلسطين من اليهود”.

 

موقف الدكتور بديع ليس موقفا شخصيا له، ولا لجماعة الإخوان التي يرأسها، ولكنه هو ذاته موقف كل أبناء ثورة يناير الحقيقيين، وكل ثورات الربيع العربي، والتي تعرضت لهجمات الثورات المضادة التي شارك الكيان الصهيوني في ترتيبها، وتسويقها، والإنفاق عليها؛ لأنه أدرك مبكرا أن نجاح الثورات العربية هو الخطر الحقيقي عليه، وهو المقدمة الطبييعية لتحرير فلسطين – كل فلسطين – من احتلاله، وإقامة الدولة الفلسطينية الحرة وعاصمتها القدس الشريف.

 

شتان بين ما عبر عنه الدكتور بديع، رغم سجنه ورغم صدور أحكام إعدام بحقه، وبين ما عبر عنه حكام مصر والسعودية والإمارات تجاه القدس. ولعل أحدث التصريحات في هذا المجال كانت لوزير الخارجية السعودية عادل الجبير؛ التي نقض فيها كل كلام القمة الإسلامية التي تغيب عنها وملكه عمدا، حين أكد أن الولايات المتحدة لا تزال هي الوسيط النزيه لعملية السلام العربية الإسرائيلية.. رغم أنها هي التي أخرجت نفسها من هذه الوساطة؛ بقرارها المشؤوم بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وبنقل سفارتها إليه، بالمخالفة لكل القرارات الدولية التي شاركت بنفسها في التوقيع عليها، والتي تقضي بعدم الاعتراف بالقدس كعاصمة للكيان، واعتبارها أحد قضايا الحل النهائي، كما أن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، يمارس ضغوطا كبيرة على قيادات السلطة الفلسطينية للقبول بالتنازل عن القدس والضفة الغربية، مقابل بضع مليارات يدفعها لهم، فيما ترسل حكومة البحرين وفدا لزيارة الكيان الصهيوني والتراقص مع الصهاينة، وتستقبل وفودا صهيونية، في الوقت الذي تشتعل فيه الأرض الفلسطينية بموجات الرفض ويتساقط الشهداء تباعا، أما نظام السيسي – وبدعم من الإمارات والسعودية – فقد بذل جهدا كبيرا لإفشال القمة الإسلامية التي استضافتها تركيا، وحاول الضغط على ملك الأردن والرئيس الفلسطيني لعدم المشاركة، لكن جهوده باءت بالفشل.. وفي الأثناء كانت صفقة القرن التي أشار الدكتور بديع أنهم محبوسون بسببها تسير وفق المخطط المرسوم لها، ولم يعرقلها سوى هذه الهبة الشعبية العربية الإسلامية التي تمثل في جزء منها بقايا روح الربيع العربي.

 

كانت الثورات المضادة، وعلى رأسها الانقلاب الغاشم في مصر، تدرك أن مصيرها ونجاحها وبقاءها؛ مرتبط ارتباطا عضويا بالكيان الصهيوني.. وحين كانت هناك الكثير من الأصوات الدولية الرافضة لانقلاب السيسي، فإنه وجد ضالته في تل أبيب التي جندت كل إمكانياتها الدبلوماسية والاستخباراتية لدعم الانقلاب، ونجحت في إقناع العديد من مراكز صنع القرار الدولية بالصمت عليه، ومن ثم دعمه، كانت غرفة الثورة المضادة تنسق عملياتها بين تل أبيب والرياض وأبو ظبي، وأنشأت العديد من المراكز البحثية والحقوقية المضادة، وأنفقت عشرات المليارات لشراء الولاءات السياسية لحكام ودول وجماعات ضغط.

 

لقد التقت مصالح دول الخليج مع مصالح الكيان الصهيوني في مواجهة الربيع العربي، فالأولى تخشى رياح الديمقراطية التي تتوق لها شعوبها، والتي تهدد عروش حكامها، والثانية (أي إسرائيل) تخشى زوالها بالأساس؛ لإدراكها أنها مجرد كيان غاصب احتل أرضا ليست أرضه، وبالتالي فإن وجود حكومات عربية نابعة من الإرادة الحرة لشعوبها؛ لن تقبل بوجود هذه الخلايا السرطانية في قلب الوطن العربي، ومن هنا وجد الطرفان (الخليجي والصهيوني) مصلحتهما المشتركة في دحر هذه الثورات مهما كلفهما ذلك من أثمان.

 

حين وقعت نكبة احتلال فلسطين في العام 1948 كان ذلك شرارة الإنطلاق لحروب التحرر العربي من الاستعمار الذي كان يساند في الوقت نفسه العصابات الصهيونية والذي منحها وعدا ثم ساعدها فعلا على إقامة كيان غاصب لها في فلسطين على حساب أهل الوطن الأصليين، وعقب النكبة بأربعة أعوام فقط انتفض ضباط الجيش المصري – الذين عاشوا لحظات النكبة والمؤامرة – ضد الملك فاروق والاحتلال الإنجليزي وتحقق لمصر الاستقلال عام 1954، ولحقها السودان، ثم سوريا ولبنان والعراق والجزائر وليبيا وتونس والمغرب، وبقية الدول العربية تباعا. واليوم، ومع تنامي الوعي بالمؤامرة التي يشارك فيها الحكام العرب على القضية الفلسطينية، وعرقلتهم لأي جهود حقيقية لتحرير فلسطين، ودعم المقاومة، وضغوطهم المتواصلة على القيادات الفلسطيني.

 

ية، فإن هذا الوعي كفيل بتصويب البوصلة في اتجاهها الصحيح، وهو ضرورة التخلص من هؤلاء الحكام كخطوة أولى وضورورية لتحرير الأقصى، ولن يكون ذلك إلا عبر استعادة زخم الثورات العربية.. ليس فقط في الدول التي شهدت انطلاقتها الأولى، بل في الدول التي تأخرت عن الموجة الأولى.

 

انكشاف مؤامرة قادة الثورات المضادة العرب على القضية الفلسطينية، خاصة بعد رفضهم المشاركة في قمة إسطنبول، وبعد تسريبات مواقفهم الحقيقية المخزية للإجهاز على القضية الفلسطينية عبر ما يعرف بصفقة القرن، وانكشاف قوة ومتانة علاقاتهم وارتباطاتهم بالكيان الصهيوني، والتي كشفها مسؤولون ووسائل إعلام إسرائيلية، هو دافع قوي لاندلاع موجات ثورية جديدة تطيح برؤوس المؤامرة، وتفتح الباب لتحرير فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي الجورنال