بقلم| أ. جمال فريد الغانم

إيماناً ويقيناً بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى؛ فالخطوات والأساليب والطريقة كلها اقتداء كما يلي: 1) النذير والتكبير والطهارة والصبر، وهذا بالنص من القرآن: {يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر}. ثم : {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا} لتقوية الروحانية في قيام الليل. ثم انظر إلى افتتاحية سورة {ن والقلم وما يسطرون} كيف تقوي عزيمته صلى الله عليه وسلم، وترفع معنوياته، وتصفه بذي الخلق العظيم.

2) السرية في العمل، من أين تعلمها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا تمسك بها؟ أهي فرض؟ كان دور الابتداء، الذي بدأ مع نزول الوحي واستمر لمدة ثلاثة سنوات، داخل مكة، في جو من الدعوة السرية، بقصد إعداد الطليعة من رجالها. وقد جاء في كتب السيرة أنّ الدعوة كانت قد عرضت على من يأنس منهم رشداً، وكذلك فعل أبو بكر حين دعا من يثق فيهم من معارفه وأصدقائه. وقد بدأ عليه وآله الصلاة والسلام بدعوة زوجته وخادمه وأصدقائه، ومن يتوسم فيهم الخير وحب الحق والصدق، فكانت المجموعة الأولى. وتلتهم المجموعة الثانية المشكلة من بلال بن رباح رضي الله عنه وصحبه ممن بلغ عددهم ٣٩ نفرًا بما يشمل المجموعة الأولى أيضًا. وقد أسلموا سرًا، والرسول يجتمع إليهم على شكل مجموعات صغيرة، وخير شاهد على أنهم كانوا في مجموعات صغيرة تراها وتلمسها بالنظر في قصة إسلام عمر بن الخطاب، حيث وجد عمر خباب وسعيد وفاطمة بنت الخطاب في خلية واحدة مكونة من ٣ أفراد. وللتدليل على السرية التي كانت متبعة تعال ننظر الى قصة إسلام أبي ذر: حيث يذكر أبو ذر أنّه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من معك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: حر وعبد، فظن أبو ذر أنّه ربع الإسلام (أي أنّ المسلمين أربعة نفر). لكن الثابت أن من أسلم قبل أبي ذرّ أكثر من ذلك. وكذلك قصة بحث أبي ذر عن النبي وأصحابه، ولقاء سيدنا علي، والتخفي قبل ملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم. واستمرت الدعوة فردية سرية طيلة هذا الدور؛ حتى تشكلت الجماعة المؤمنة الصلبة المتعاونة، وإن لم يزد عددها عن الأربعين. ثم نزل الوحي مؤذنًا بنهاية هذا الدور آمراً بإعلان الدعوة، ومجابهة الباطل، ومهاجمة الأصنام.

3) {فاصدع بما تؤمر}. الأمر بالصدع، وقد نزل عليه بأمر سماوي. جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس أنّه لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين}، صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: (يا بني فهر، يا بني عدي) لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا ً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟)، قالوا : نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا. قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب}. وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة جانبًا آخر من هذه الحادثة قال: لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمّ وخصّ فقال: (يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أنّ لكم رحمًا سأبلها ببلالها). وما أن نزل قوله تعالى بعد ذلك بقليل {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين}، حتى انفجر غضب مكة واستنكرت القول بضلالها كعبدة للأصنام، وقامت لتحسم الموقف، لأنها أدركت معنى الإيمان بالرسالة واليوم الآخر.

4) عدم المهادنة، والتحذير الرباني من الميل للمهادنة: إن وضوح فكرة الدعوة منذ اليوم الأول، وتحديها للكفر، وخطابها غير المهادن، قد فرضا الاحتكاك لولا تجنب أسبابه، فقد قامت قريش ضده صلى الله عليه وسلم وصحبه، فقررت أن تأتي عمه أبا طالب ليخلي بينهم وبين أخيه إذ لم يكفه عنهم، فردهم أبو طالب ردًا جميلا ً، ومضى نبي الله عليه وآله الصلاة والسلام في طريقه مظهرًا دين الله وداعيًا إليه. وحزن رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام لإعراض وتكذيب قريش له، وتألم لهذا، فواساه الله {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. رجع الوفد ثانية لأبي طالب ليشتدوا في عتابه لأنّه لم يكفه عنهم، وأصرّوا عليه هذه المرة إما أن يكفه، أو ينازلوه هو وإياه حتى يهلك أحد الطرفين، ثم انصرفوا، فدعاه أن يبقي على نفسه وعليه، فظن عليه الصلاة والسلام أنّ عمه قد ضعف عن نصرته، وأنّه سيخذله، إذ جاء في [دلائل النبوة] أنّ قريشًا مشت إلى أبي طالب مرة بعد مرة فلما كانت المرة الأخيرة قالوا: (يا أبا طالب، إنا جئناك مرة بعد مرة نكلمك في ابن أخيك، وتعلم أنّك وإن كنت فينا ذا منزلة لشرفك ومكانك فإنّا لسنا بتاركي ابن أخيك حتى نهلكه، أو ما قد أظهره فينا من شتم آبائنا وعيب ديننا) فقال أبو طالب: (أنظر في ذلك)، ثم قال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن أخي قد جاءني قومك يشكونك، وقد آذوني فيك وحملوني ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عنهم ما يكرهون من شتمك آباءهم وعيبك دينهم)، فاستعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذه الأمر أبدًا حتى أنفذه أو أهلك)، فلما رأى أبو طالب ما بلغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا ابن أخي امض على التابعين، وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا)، وجاء نحوه في [السيرة النبوية] من أنّ قريشاً مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: (يا أبا طالب، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنها، أو ننازله وإياك ذلك، حتى يهلك أحد الفري

** ملحوظة** جميع مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بأي حال عن موقع الجورنال