من أوضح الكتب التي ظهرت حديثا حول كيفية إنشاء الكيان الصهيوني، كتاب صدر في شهر مارس 2018، بعنوان : “قرن بلفور” ، للباحث الفرنسي فيليب سيمونّو. وقد اعتبره النقاد أحد أهم المراجع لفهم مشكلة الشرق. كتاب تمثل فيه كل صفحة أو كل نقطة تناولها الكاتب عبارة عن صفعة يتلقاها القارئ ودرسا لن ينساه لفهم تصرفات بعض حكام العرب والمسلمين.

ومن اللافت للنظر أنه بينما يتم الاهتمام بذكرى الأحداث التاريخية المصيرية بصورة واضحة، فمن الغريب ان يتم مرور ذكرى مائة عام على “وعد بلفور” الشؤم بمثل هذا الصمت إلا فيما ندر من الشذرات.. فذلك الخطاب المرسل الى اللورد روتشيلد، والمكون من 122 كملة، على ورق بلا أية علامة رسمية، وعلية توقيع أرثر جيمس بلفور دون حتى ذكر صفته الرسمية الوزارية، تسبب في أكبر عملية تزوير عرفها التاريخ على الأقل في العصر الحديث. وهذه الوثيقة قد تم استخدامها كأساس للحماية التي فرضتها إنجلترا على فلسطين من 1920 الى 1948، تمهيدا وتنفيذا لاختلاق الكيان الصهيوني المقتلِع والناهب لأرض فلسطين. كما ان هذه الوثيقة قد تسببت في حصاد أرواح آلاف الفلسطينيين ولا تزال تحصد بكل جبروت. فالمأساة الإنسانية المتفردة الناجمة عنها لا تزال تتواصل بمباركة جميع الأطراف.. تتواصل كالأسطوانة المشروخة لمسرحية عبثية غاشمة .

وعلى مدى ثلاثة فصول شديدة الوضوح والثراء في الوثائق يقوم المؤلف بتحليل تلك الوثيقة ومحتواها التاريخي وكل ما تمخضت عنه من تأثير على كل منطقة الشرق الأوسط وعلى العالم بأسره، بسبب تواطؤ القوى الكبرى التي لها مصالح سياسية واقتصادية ضخمة في تلك المنطقة. ومن خلال ذلك السرد الموثق تتكشف اتفاقيات غير أمينة، وحسابات سياسية مجنونة أو ماجنة، وتحالفات شيطانية هي أصل هذه المأساة الدامية المتواصلة.

ويوضح الكاتب أنه بعد عام من توقيع اتفاقية سايكس ـ بيكو أطاحت بها بريطانيا العظمى لتجعل من فلسطين دولةـ مصدّ لتسيطر على قناة السويس التي كانت تمثل بالنسبة لها شريان الملاحة الإمبراطورية. إذ ان ميراث الاحتلال البريطاني قد اختلق ولا يزال يواصل تغذية أكثر الأوكار المصدرة للأزمات الدولية. ومنها التفرقة العنصرية في جنوب افريقيا، وتقسيم الهند وباكستان، ومشكلة السعودية وقطر، وتقسيم أفغانستان، ودك أو سحق كلا من العراق وليبيا، وحرب جزر فوكلاند، وخاصة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

وذلك لأن الديبلوماسيين البريطانيون، الذين يترأس قائمتهم ونستن تشرشل، لم يكفوا عن استخدام الأقليات العرقية والتلاعب بالإسلام لخدمة مصالح التاج البريطاني، ولندن هي أحد داعمي بدعة “الإسلام السياسي” الذي ابتدعوه هو ونقيضه المرادف له: الصهيونية. ويرى فيليب سيمونّو أن وعد بلفور هو الذي جعل من الصهيونية حركة سياسية بحكم أن أكبر قوى سياسية في العالم آنذاك تسانده، ولا تزال..

ومن أهم ما يطرحه الكاتب في تحليل ذلك “الوعد” المشئوم أنه يمثل قصة بترول ذات أهمية استراتيجية، تسبق ثورة السيارات، فالقرار الذي اتخذته البحرية البريطانية في مطلع القرن العشرين بتحويل وقود البحرية البريطانية الى البترول، بدلا من الفحم المستخدم حتى ذلك القرار، قد أعطى سيادة للبحرية البريطانية على البحرية الألمانية. إذ كانت إنجلترا تستميت للحفاظ على سيادة البحار والسيطرة عليها أمام تصاعد قوى البحرية الألمانية. والمشكلة كانت ان بريطانيا لا تحتوي أراضيها على نقطة من ذلك الذهب الأسود.

وقد أعلن تشرشل في يوليو 1913 أمام مجلس العموم قائلا : “بدون البترول إنجلترا لن تحصل على الذرة ولا على القطن بل ولا على أي مادة ضرورية لاقتصادها. والبحرية عليها أن تتمكن من السيطرة على البترول عند المنبع. كما يجب عليها ان تتمكن من استخراجه وتكريره ونقله. باختصار شديد: الإمبراطورية البريطانية ستكون بترولية أو لن تكون على الإطلاق”! واستوعبت الولايات المتحدة الدرس، وابتداء من منتصف 1920 أطلقت شركاتها البترولية الكبرى. وصبيحة الحرب العالمية العظمى ـ ولم يكن حبر وثيقة يالطا قد جف، سارع روزفلت بدعوة الملك ابن سعود على ظهر الباخرة “يو إس إس ـ كوينسي” ليوقع على أول اتفاقية بعنوان: “البترول مقابل الحماية”..

ويواصل الكاتب: “وتم توقيع “اتفاقية كوينسي” يوم 14 فبراير 1945، والتي تمنح الأمريكان حق استغلال أكبر مستودعات البترول في العالم للشركات الأمريكية، مقابل حماية اسرة بدوية لا أحقية شرعية لها لادعاء إدارة الأماكن المقدسة للإسلام، وهي مكة والمدينة”. تم توقيع الاتفاقية لمدة ستين عاما. وفي عام 2005 قام جورج دابليو بوش بتجديد الاتفاقية لنفس مدة الستين عاما دون أن يثير هذا الحدث أية تعليقات في الصحافة الفرنسية أو غيرها.

وفي نطاق مفهوم وعد بلفور: ان موتى ثورة العرب آنذاك ينبؤون عن غيرهم، على الطريق في استمرارية متواصلة مهينة.. فقبل ميلاد الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين بشهرين، أي يوم 14 مايو 1948، دبّرت الهاجانا ما أطلقوا عليه “الخطة دال”، والدال بالعبري تعني الباب. أي خطة اقتحام فلسطين من الباب، على مرأى ومسمع من الجميع.. وتشير هذه الوثيقة الى ترتيب حملة ترويع واقتلاع ضخمة لتقوم الجماعات المسلحة للهاجانا وارهابيو جماعة “شْترن” المرادفة لها، بالقيام بعمليات تدميرية منتظمة وإحراق المساكن أو نسفها بالديناميت. وكانت تعليمات بن جوريون واضحة: “الهدف الأساسي من العملية هو هدم قرى العرب (…) وتطهيرها من ساكنيها”..

وكانت أول معركة في “الخطة دال” هي مذبحة دير ياسين، يوم 18 ابريل 1948. ويقول فيليب سيمونّو: “هذه القرية التي تم إبادة ثلاثة أرباع سكانها بوحشية منقطعة النظير، كان عليها أن تختفي لأنها كانت في منطقة رأى واضع “الخطة دال” أنه يجب تنظيفها ممن فيها. وكان مناحم بيجين، ذلك اليهودي البولندي الذي أصبح فيما بعد رئيس وزراء إسرائيل من 1977 الى 1983، كان آنذاك رئيس “الإيرجون” أكبر منظمة إرهابية صهيونية، قد قال عن مذبحة دير ياسين متفاخرا: “كانت السلطات اليهودية تسير في حيفا كالسكين فب الزبدة”..

وكانت المرحلة الثانية هي التطهير العرقي ونزع الهوية العربية من حيفا. وبدأت العملية عشية عيد الفصح يوم 21 إبريل 1948. وقد أطلق موردخاي مَكلف، الضابط المسؤول عن التطهير العرقي صيحة محددة: “اقتلوا أي عربي ترونه، واحرقوا كل ما يمكن حرقه، وافتحوا الأبواب بالمتفجرات”. وقد أصبح مَكلف بعد ذلك القائد الأعلى للجيش الصهيوني.

والتطهير العرقي لم ينل تلك المدن فحسب، ولكن كل ما وراءها وكل ما يحيط بها من مناطق ريفية. كما تم فصل الرجال من سن 10 الى 50 من النساء لإعدامهم فورا، وتم اغتصاب النساء وابادة الأطفال. وما أن تم “تطهير” المنطقة من سكانها تم غرس الألغام في الأنقاض لمنع أي فلسطيني من العودة. وانطلقت آلة التطهير العرقي منذ ذلك الحين ولم تتوقف حتى يومنا هذا..

وبلغ الحصاد حوالي مليون فلسطيني، وهدم 531 قرية وتفريغ 11 مدينة من سكانها. أي نصف مهمة التطهير العرقي لشعب فلسطين قد تمت فيما بين 30 مارس و15 مايو 1948، بينما كانت فلسطين لا تزال تحت الحماية البريطانية!!

ويصف الكاتب سلبية الجيش البريطاني بأنها كانت سلبية تفوق التواطؤ، بل كان كل همه كيفية حماية الصهاينة القتلة وهم يعودون الى سكناتهم. ويختتم هذه الفترة بجملة واضحة: “بهذا التصرف كتبت إنجلترا صفحة من أبشع صفحات تاريخها المشين: النتيجة الدامية لوعد بلفور”..

ولمن يتساءل عن السبب الحقيقي الذي ساعد على وقوع هذه المجازر المتواصلة، يورد الكاتب صورة وثيقة تقشعر لها الأبدان الما واشمئزازا.. وقد نقلها أيضا الصحفي الفرنسي رينيه نابا، في مقالة من عدة أجزاء.. وثيقة تنازل مؤسس العائلة السعودية الوهابية عن فلسطين، التي يقول فيها بخط يده ما يلي، والغريب أنه بدأها بالبسملة، مثلما يقوم الجزار بالتكبير على الذبيحة:

“باسم الله الرحمن الرحيم

أنا السلطان عبد العزيز بن فيصل ابن عبد الرحمن ابن فيصل آل سعود أقر وأعترف ألف مرة للسيد برسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى أنه لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم كما تراه بريطانيا العظمى التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة”..

أما النتيجة الثانية لوعد بلفور المشؤوم التي يوردها الكاتب فهي: “القنبلة الذرية الإسرائيلية”. انها تحاط بسرية تامة وان أصحابها ليسوا ملزمون بالخضوع للرقابة الدولية وليسوا مجبرون على التوقيع على معاهدة عدم حيازة الأسلحة النووية.. ويورد عن خبراء عسكريين مختصون “ان إسرائيل تمتلك من 200 الى 300 رأس نووية، تعمل على ثلاثة محاور: قذائف متوسطة وطويلة المدي، طائرات مقاتلة، وغواصات”.

وتقشعر العبارات هلعا، وقرفا، ومهانة، من تصرفات بعض المسلمين..

زينب عبد العزيز

10 ابريل 2018