بقلم | شيري باترسون

من يقرا تاريخ المانيا منذ أيام الامبراطورية الرومانية ومرورا بتاريخها في الحروب الصليبية وما تلاها من أحداث خاصة في عهد ملوك بروسيا فريدريك الاول والثاني والثالث ثم ما أعقب كل ذلك من حربين عالميتيين خاضتهما المانيا افزعت فيهما العالم بـأسره متسلحة قيادة وشعبا بأفكار اشهر فلاسفتها ومفكريها ” نيتشه ” الذي كان يقدس القوة العسكرية والقوة البدنية والقوة بكل اشكالها وصورها و بنى كل نظرياته الاخلاقية على فكرة ” الانسان الأعلى ” وعلى أخلاق القوة وارادة القوة وسحق الضعفاء

من يقرأ كل ذلك واكثر من ذلك عن أرث ثقافي قديم لدى الشعب الالماني يقوم اساسا على اعتماد القوة والاعتداد بالنفس المبالغ فيهما كمنهج لبناء الامة الالمانية ثم يقارن كل ذلك بما طرأ على فكر الالمان من تغيرات جذرية في الملامح و التوجهات سيصاب حتما بالدهشة

فالشعب الالماني تاريخيا أنما هو شعب مقاتل ومجتمع عسكري من الطراز الاول بالفطرة وعادة ما يجنح الى العدوانية اكثر من الركون الى السلم واللاعنف بعكس ما هو حاصل اليوم ومنذ انتهاء الرايخ الثالث والقضاء على الحقبة الالمانية النازية

في تقرير أصدرته لجنة الامن والدفاع للاتحاد الاوروبي عام 2018 يصف فيه حالة الجيش الالماني في حينه قال التقرير بالحرف الواحد عن الجيش الالماني أنه مسخرة ” It is a joke ”

بل ان البرلمان الالماني ” بوندستاغ ” ذكر في مناقشة برلمانية له على الهواء مباشرة وضعية الجيش الالماني المزرية والتي لاقت ترحيبا هائلا من قبل كلا من القيادات السياسية والقواعد الشعبية الالمانية ليس فقط في حينها بل و طوال 70 عاما لان الشعب الالماني تغيرت عقيدته واصبح يزدري العسكريتارية بكل ما فيها !!

فالتقرير يقول أن لدى الجيش الألماني حوالي 245 دبابة و تقريبا نصفها خارج الخدمة وتحتاج الى صيانة كما أن لدى الجيش الالماني 6 غواصات ولا واحدة منها صالحة للعمل كما أنه هناك حوالي 14 طائرة ناقلة للجنود والمعدات واحدة منها فقط صالحة للعمل وأن هناك الاف الوظائف الشاغرة في الجيش الالماني دون أن يرغب أن يتقدم اليها أحد من الالمان وان ميزانية جيش الدفاع الالماني تقع في ذيل أولويات الميزانية العامة للبلاد

بل أن ترامب نفسه هاجم المانيا مرارا بسبب عدم انفاقها على تطوير قدراتها العسكرية واعتمادها الكامل على الحماية الامريكية دون أن تدفع المانيا حصتها المتفق عليها في موازنة دول اعضاء حلف الناتو لتطوير قدراتها العسكرية والتي حصة ألمانيا منها حوالي 2% من مجمل دخلها العام المحلي ( المانيا تدفع فقط حوالي 1 % )

فلماذا هذا الاهمال من قبل الحكومة والشعب للجيش الالماني والاتفاق على عدم الانفاق عى الجيش الالماني وتطويره وتحديثه مع العلم ان المانيا لديها رابع اقوى اقتصاد في العالم مما يمكنها وبكل يسر أن تنفق بسخاء على تطوير التها العسكرية وعلى تحديث جهوزيتها الدفاعية والهجومية على حد سواء ؟؟؟

حتى أن الشعب الالماني نفسه وكما أوردت بعض التقارير الصحفية يتحرش باي جندي الماني يسير بزيه العسكري في الشارع بل أن الحكومة الالمانية رفضت رفضا قاطعا منذ أن تم حل الجيش الالماني عام 1950 ثم السماح لالمانيا باعادة تكوين جيشها الخاص بها عام 1955 ووصولا الى عام 2009 منح اية أوسمة أو نوط تكريم أو اية ميداليات لاي عسكري الماني ابلى بلاء حسنا في اية مهمة عسكرية أوكلت اليه

بل أن وزير الخارجية الالماني حينما ناقش في البرلمان الالماني ارسال قوات المانيه خارج المانيا لاول مرة عام 1999 للمشاركة في قوات حفظ السلام في كوسوفو جوبه بمعارضة شديدة من قبل البرلمانيين بل قام احد ابناء الشعب الالماني بألقاء دهان حائط أحمر اللون على رأسه تعبيرا عن رفض ذلك المواطن الالماني لسفك الدماء

يقول الاعلامي والمحلل السياسي سيد جبيل في تفسيره لهذه الظاهرة في دراسة له أنه تولد لدى الشعب الالماني كراهية شدديدة تجاه اي عمل عسكري او اتجاه اية مؤسسة عسكرية او جيش نظامي بعد الحربين العالميتيين في القرن العشرين وما تلاهما من خسائر بشرية المانية تتخطى ال 8 ملايين نسمة وايضا تتخطى ال 100 مليون نسمة عالميا وأن ألمانيا تحولت الى ركام من الابنية المحطمة ومدن اشباح ومضيفا الى ذلك كله الضغوطات النفسية والامنية التي عاشها الشعب الالماني على اراضيه طوال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية حيث تتواجد على الاراضي الالمانية أكبر ترسانتين نوويتين في العالم متجابهتين وأن ذلك ولد لدى الالمان الشعور بانهم في خط المواجهة الاول مما خلف اثارا نفسية صعبة للغاية على الشعب الالماني وفق تلك الدراسة

هذا الى جانب الاثار النفسية و المجتمعية الناجمة عن تقسيم المانيا الى شطرين وبرلين الى اربعة اقسام وفصل الاسر الالمانية عن بعضها البعض بسبب سور برلين واطلاق النار على اي الماني يحاول تسلق حائط برلين للوصول الى الشطر الاخر من المانيا ..

كل ذلك يفسر بعض الشيء رفض المانيا حكومة وشعبا اي انفاق على اي جهد عسكري الماني او تطوير البنية العسكرية الالمانية او السعي لامتلاك اية ترسانة نووية منذ قرار الحكومة الالمانية بعدم السعي لامتلاك اية ترسانة نووية في عام 1968

( هذا النفور من العسكريتارية و من الجيش لم يحدث عند الاتراك مثلا الذين خاضوا نفس التجربة تقريبا في الحرب العالمية الاولى بل ان الاعتزاز بالجيش والحرص على تطويره وتحديثه ينمو بشكل مضطرد وهو ثاني اكبر قوة عسكرية في حلف الناتو بعكس المانيا تماما)

المانيا وبسبب ما سبق ذكره رفعت شعار السلمية اللامحدودة واللامشروطة و التي هي اقوى من الرصاص مهما حصل ومهما كانت المخاطر حتى ان البعض وصف المانيا بممارسة الغطرسة الاخلاقية ( ethical arrogance ) بعد ان كانت تمارس الغطرسة العسكرية ( military arrogance ) على الشعوب

الا ان الامر وعلى ما يبدو قد بدأ يتغير تدريجيا بعد عام 2014 تحديدا وضم روسيا لجزيرة القرم و بروز المطامع العسكرية الروسية في اوروبا من جديد وذلك بالتزامن مع تصويت بريطانيا كأقوى ذراع عسكري لدى الاتحاد الاوروبي للخروج من الاتحاد عام 2016 ووصول ترامب الى سدة الحكم في الولايات المتحدة في نفس العام وممارسته ضغوطا على المانيا لرفع ميزانية التسلح لديها وفق ما اتفق عليه في حلف الناتو والايفاء بوعودها بدفع 2% من مجمل الدخل العام الالماني لتطوير استراتيجيات الدفاع والامن لدى المانيا بدلا من الاعتماد كليا على الدعم الحماية الامريكية واصفا المانيا ب الراكب المجاني ( FREE RIDER ) الذي لا يدفع ثمن تنقلاته

وقد صاحبت تصريحات ترامب تلك تهديدات أمريكية بالانسحاب من حلف الناتو تاركا أوروبا تواجه مصيرها منفردة أمام الدب الروسي

في عام 2018 أعلنت ميركل مستشارة المانيا ان بلادها ستبدأ مرحلة جديدة في تبني استراتيجية متطورة للامن والدفاع وأن بلادها بصدد تشكيل جيش الماني قوي ومتطور

بل ان الامر لم يتوقف عند ذلك ولكن تعداه الى ما هو اهم واخطر وهو ان المانيا قد تبدأ بامتلاك سلاحها النووي كما أنها بصدد تجنيد نصف مليون مقيم على اراضيها كخطوة اولى لمعالجة عزوف كثير من ابناء الشعب الالماني عن الانضمام الى الجيش ( على ما اذكر هناك مشروع تطرحه الحكومة الالمانية على البرلمان لاقرار اعادة العمل بقانون التجنيد الاجباري الذي تم حظره منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية )

دول الاتحاد الاوروبي تتوسل المانيا لكي تطور امكانياتها العسكرية خاصة بعد خروج بريطانيا وايضا تهديدات امريكا بالانسحاب من توفير تلك الحماية

المانيا لا زالت تربك العالم ( العالم الاوروبي تحديدا ) بسبب تلكؤها في الولوج في هذا المضمار وخلق التوازن امام الدب الروسي بنفس الدرجة التي اربكت فيها المانيا العالم الاوروبي حينما كانت تتبنى العقيدة العسكرية اسلوبا للحياة

أنها نفس سلمية الاخوان المطلقة التي تبنتها حركة الاخوان المسلمين بسبب الطرق الشديد الذي حدث لها بعد ان أرعبت الاحتلال البريطاني لمصر ووكلاءه المحليين بتنظيمهم السري المسلح وعمليات القنص لجنود الاحتلال البريطاني وعملائه وامتداد نشاطهم العسكري الى دولة الكيان الصهيوني الوليدة عام 1948

الان هناك مساع حثيثة وضغوط على كل من المانيا كما كانت هنك نفس المساعي مع الاخوان منذ عدة سنوات لاعادة تبني العقيدة العسكرية …. ولكن من يطالب المانيا باعادة النظر في تطوير قدراتها العسكرية ( وفي نفس السياق من يطالب الاخوان بالعودة الى النهج العسكري الذي كان مرتكزا أساسيا من مرتكزات الحركة في صورتها الاولى ) لا يعلمون – او ربما يعلمون – ماذا تعني عودة المارد من قمقمه من جديد وأيقاظ روح الشر او الانتقام او الهجوم في نفسه مرة اخرى بعد طول غياب…!!

ان عادت روح الشر لدى الالمان فلن يقف أمامهم لا صين ولا امريكا ولا روسيا وستستباح اوروبا باكملها كما فعلت المانيا ذلك دوما على مدى اكثر من 6 قرون فالفارق بين الانتقال من التكنولوجيا المدنية المتطورة التي تمتلكها المانيا حاليا وبين الانتقال بها و تحويلها الى تكنولوجيا عسكرية جبارة فقط شعرة … و في نفس السياق فأن الفارق بين مقاومة النفس وحملها على الصبر وضبط ردود أفعالها لدى الإخوان وبين المقاومة بالنفس وأطلاق العنان لكل ردود افعالها أنما هو شعرة ايضا

وأن خلع الاخوان عنهم رداء السلمية وعادوا الى سيرتهم الاولى فلربما لن تجد حينها ليبراليا او علمانيا او مدخليا او عسكريا أو أيا من رقص على جثثهم حيا يتنفس في مصر

فاتركوا المارد الألماني في قمقمه ولا تخرجوه لانه أن خرج من قمقمه ثانية فالله وحده أعلم بما ستؤول اليه الاحداث كما يقول المحلل السياسي سيد جبيل في معرض بحثه عن استراتيجيات الدفاع الالمانية …

المانيا والاخوان المسلمين و أوجه الشبه بينهما…..من يقرا تاريخ المانيا منذ أيام الامبراطورية الرومانية ومرورا…

Posted by Sherry Paterson on Tuesday, 21 April 2020