بقلم| محمد عبد العزيز

كل بلاد العالم تقريباً دول لها جيوش لكن الوضع معكوسٌ تماماً في الحالة المصرية، ” جيش له دولة “.!!! في كل جيوش العالم تجد الدولة ” التي هي الشعب من خلال ممثليه “، تحدد للجيش مهامه و ميزانيته و حدوده و إمكاناته و أماكن تواجده و انتشاره على أرضها، بينما في الحالة المصرية و على الحقيقة، العكس تماماً هو الصحيح فالجيش المتمثل في قياداته العليا، يحدد للشعب و لأجهزة الدولة و مؤسساتها مهامهم و ميزانيتهم و حدودهم و إمكاناتهم و أماكن تواجدهم و انتشارهم.!!!

ناهيك عن أنه يحدد لهم ثقافتهم و تعليمهم و تاريخهم و سياستهم و معايشهم و أنشطتهم و فنونهم و طبيعة اقتصادهم، و عقيدتهم و مذهبهم.!!! في دولة عظمى مثل أميركا التي تمتلك أكبر و أخطر جيش في العالم، يمكن لأي مواطن أمريكي أن يجوب أميركا من أقصاها إلى أقصاها بحقولها و صحرائها و جبالها و وديانها و غاباتها بحرية شبه مطلقة، باستثناء اماكن و منشئات محددة كوزارة الدفاع و البيت الأبيض و المنطقة 51 الخاصة بالبحوث العسكرية السرية و مناطق معسكرات الجيش و الملكيات الخاصة، و كل ما عدا ذلك مباح للأمريكيين، بلا قيود سوى القوانين المحلية.

في المقابل تجد كل أرض مصر و جبالها و وديانها و صحرائها من أقصاها إلى أقصاها مخصصة أساساً للجيش و محرمة على المصريين باستثناء الإطار الذي حددته المؤسسة العسكرية للشعب المصري ليتواجد و يعيش فيه و هذا الإطار يمثل نحو 3% من مساحة البلاد، ويتمثل في شريط الوادي الضيق حول نهر النيل و شريط الساحل الشمالي و بعض المدن على البحر الأحمر و بضعة واحات صحراوية منعزلة، و كل ما عدا ذلك و ما بين ذلك هو عملياً أرض محرمة تملكها مؤسسة الجيش التي صادرت مصر لحسابها تحت دعاوي و مسميات شتى.!!! و على أي مواطن مصري يريد الخروج من المساحة المحددة للشعب حول نهر النيل أن يحصل على تصريح يعرب فيه عن قصده و وجهته و يثبت للمالكين حسن نيته.!!!

إن هذا الحصار الأسود قد حول الشعب المصري عملياً و دون أن يدري إلى لاجئ يعيش في مخيم ضخم تحت إمرة و تصرف قوة غاشمة فرضت عليه التكدس و الانكماش و منعته من التمدد الأفقي لإعمار بلاده و استصلاح أرضها و التنقيب عن كنوزها و استثمار مواردها الهائلة. لقد صادرت المؤسسة العسكرية كل أراضي و ثروات مصر تحت مسمى أراضي الدولة و أملاك الدولة، و هذا الكيان الهلامي الذي يسمونه الدولة في مصر هو على الحقيقة المجردة مؤسسة الجيش أو بتحديد أدق القيادات العليا للمؤسسة العسكرية و أعوانهم، لا أقل من ذلك ولا أكثر. لقد ترتب على هذا الحصار الأسود كوارث يعجز المداد عن حصرها نذكر منها طرفاً يسيراً في نقاط رئيسية مختصرة:

– عجزت معظم السواعد المصرية الشابة عن استصلاح الأراضي باستثناء بعض الرقع الضيقة التي باعها الجيش لمن يملكون الثمن.

– بين التربح و شراء الولاء فقد المصريون ملكية الكثير من الأراضي الصالحة للزراعة و الأنشطة السياحية و الاقتصادية المتنوعة التي باعتها أو وهبتها المؤسسة العسكرية لصالح الأجانب و المحاسيب.

– احتكرت المؤسسة العسكرية مناجم الذهب و المعادن المختلفة و أدارتها لصالحها حصراً بعيداً عن أي شراكة أو رقابة شعبية.

– احتكرت المؤسسة العسكرية قرارات تنفيذ أو إيقاف التنقيب و الإنتاج للمناجم المختلفة و الذي ينبغي أن يكون الأصل فيه رأي الجيولوجيين و لجان الخبراء المتخصصين و دراسات الجدوى المتخصصة، و حولته إلى قرار سيادي بحت يحقق مصلحة شخصية للمسؤولين أو يتم به استرضاء دولاً معينة بينما يضر بالمصلحة الاقتصادية للبلاد.

– حرمت مصر من معظم ثروتها النفطية بسبب تحكم المؤسسة العسكرية في صلاحية منح حقوق التنقيب، و حرمان القطاع الخاص الوطني من المشاركة.

– انكمشت أنشطة واعدة مثل شركات المحاجر المعنية باستخراج الحجر الجيري و السيلكون و الإسمنت و استخراج و تشكيل الرخام و الجرانيت و الأحجار الكريمة و انكمشت بالتالي الصناعات المرتبطة بها بسبب تعنت المؤسسة العسكرية في منح صلاحيات و تراخيص التنقيب في معظم الجبال و الصحاري المصرية.

– رغم تمتع مصر بأطول امتداد مائي مالح و عذب فقد حرمت من نحو 90 % من مواردها السمكية بسبب تشديد إجراءات تراخيص الصيادين و التضييق عليهم، و الشيء بالشيء يذكر، ففي عام 1994 كنت شخصياً في مصيف بمدينة العريش و أردت أن أمارس هواية الصيد بالسنارة من على الشاطيء ففوجئت بعسكري حراسة الشاطيء يطلب مني إبراز رخصة الصيد.!!!

و يكفي أن نعلم أن بحيرة ناصر وحدها التي يحاصرها الجيش منذ إنشاء السد العالي بحجة الأمن القومي، تحتوي على كمية من الأسماك تكفي لتحقيق الاكتفاء الذاتي و التصدير من كافة أنواع السمك النيلي و قد حرم المصريين من خيرات هذه البحيرة لتتوحش فيها الأسماك و تنتشر بها التماسيح، ناهيك عن وجود ترسبات الذهب في طميها، و قد ذهبت شخصيا في رحلة إلى السد العالي و منعونا حتى من الاقتراب من بوابات السد فضلاً عن أن نقترب من حدود البحيرة.!!!

– دفن النفايات النووية في صحارى مصر المجهولة دون علم الشعب.

– الفراغ الأمني في صحراوات مصر حيث يوفر التفريغ الكامل لمناطق شاسعة مرتعاً خصباً لكل من يمكنه الوصول لهذه المناطق بصورة ما، و قد انتعشت زراعة المخدرات و انتاجها بالأطنان في مجاهيل الجبال المحرم على المواطنين وطئها.

– في نفس سياق النقطة السابقة لا يمكن استبعاد وجود قواعد عسكرية أمريكية أو حتى إسرائيلية في ظل الزواج الكاثوليكي الذي تحدث عنه وزير الخارجية المصري بين مصر التي تمثلها المؤسسة العسكرية و أميركا في بعض هذه المناطق المحرم على المصريين رؤيتها أو حتى الاقتراب منها منذ عقود، و أذكر أني قرأت عن اكتشاف معسكر إسرائيلي لتدريب الجنود الصهاينة داخل أرض مصر بمنطقة البحر الأحمر فترة زعيم الهزائم عبد الناصر في الستينيات.!!! و حقيقة لو كتبت عشر صفحات إضافية في مثالب الحصار الأسود الذي تفرضه هذه المؤسسة على المصريين ما وفيت و لكن أكتفي بهذا القدر و للحديث بقية.

محمد عبد العزيز -6/8/2020 م.