كل يوم أجد على صفحتي أفلاماً قصيرة لمدارس عربية، وفيها يقف التلاميذ العرب رتلاً، ثم يتقدمون إلى المدرّس ليصفعهم على وجوههم صفعة، لها صكّة ودوي، ولا يتحملها البعير. أو يسوط بعصاه مؤخراتهم وأدبارهم، فيقفزون متراً عن الأرض من قوة السوط.

 

ثم أجد القسم الثاني من الفلم في ديار العلوج، فنرى معلمة حلوة، مثل البدر التمام، وهي تستقبل التلاميذ على باب الصف، تلهو معهم، وتصافحهم باليدين والقدمين والرأس، ثم تأخذهم بالأحضان، واحداً واحداً، فأتذكر أيام طفولتي في المدرسة، ثم أنثني على كبدي من خشية أن تصدعا.

 زارت ابنتي النازحة دولاً ثلاث في سنة واحدة، في رحلات مدرسية، هي النمسا وبلجيكا وفرنسا، ولم أعرف حتى سن بلوغ الجامعة غير بلدتي المنفية في أقصى الأرض!
 في النمسا قامت المدرسة برحلة للتزلج على الجبال، فاشتروا أزياء، وعدد تزلج غالية الثمن، وهناك تكسرت عظام ثمانية طلاب من أصل ثلاثين، وأُسعفوا بالطائرات الحوامة، كأن التزلج يقابل مادة الفتوة والتربية العسكرية عندنا!

 والاحترام والتبجيل الذي ألقاه في المدرسة، كأب عند الزيارة الشهرية كبير، بينما عندما كنت تلميذاً، كنت أحتال على أحد الجيران، وهو من القلائل، الذين يرتدون ثياباً مدنية، عصرية، حتى يرافقني إلى المدرسة على انه ولي أمري، وكنت أظن أن المدرسة يجب أن تزوره وتطلب بركته، وتعتذر منه على خطيئة أصلية. والثاني: أنه قد وقر في عقولنا أن ولي الأمر يجب أن يشبه الصور في الكتاب المدرسي، فالأب يجب أن يكون مدني الهيئة، ليس فلاحاً، ولا يلبس جلابية، أو عمامة، أو عقال، ويجب أن يشبه الممثل رشدي أباظة، أو راج كابور في فلم سانغام.

 بل إني عندما ذهبت لأحصل على دفتر العسكرية، طلبوا ولي أمري في التجنيد، وكنت في الثانوية العامة، حاولت أن أعتذر عن حضور والدي، ورويت حكاية مأساوية للعقيد، فرقّ لي في ساعة صفا، ونادى الحاجب، وقال له: تعال ابصم على أنك والد هذا الفتى.
 فبصم!
لقد جعلني العقيد ابناً لحاجبه المجند!
كانت صفحات القراطيس المدرسية تتحول إلى طائرات، تطير في سماء الصف، أو زوارق تتهادى على المقاعد الخشبية. الآلة الثالثة التي كنا نصنعها في معاملنا المدرسية، هي المسدس، وكان كل مسدس يتطلب صفحات ثلاث، أما الطائرة والزورق، فلم يكونا يحتاجان سوى إلى ورقة واحدة.
 يحضر المدرس ليجد أرض الغرفة وقد امتلأت بأشلاء الطائرات الورقية المتساقطة، أو بهياكل الزوارق، وقد غرقت تحت المقاعد، فيمر علينا غاضباً متفحصاً الواجب المدرسي، واسمه الوظيفة، فيجد دفاترنا، وقد قضت في حروب الطائرات والزوارق، لا صفحة بيضاء في الدفتر، لقد مُزّقت تمزيقا.
 ثم تبدأ العقوبات.

 بلادنا المعطاء كانت أرض عقوبات، أحكام عرفية، قوانين طوارئ في كل مكان.

وكان الآباء يشتكون للمدرسة: هؤلاء الأولاد وجدناهم في البرية مثل نباتات الفطر، اللحم لكم والعظم لنا، أذيقوهم نكال الآخرة والأولى، نريدهم متفوقين، ثم يغالون في الضراعة: أرجوكم نهبونا هؤلاء الشياطين، إنهم لا يكفّون عن طلب الدفاتر، أخبرونا، بماذا تكلفونهم، كتابة صفحات التاريخ منذ عاد وثمود!

 فيعاقبونا علانية بالفلقة، وهي عقوبة تنفذها الشرطة بالمجرمين لتحصيل الاعترافات، في الباحة المدرسية، تحت الشمس، فنزحف إلى الصف، بعد أن شويتْ أقدامنا بالعصي، ونعود إلى بيوتنا، ونحن نظلع ونعرج مثل الغربان، فلا يلحظ الآباء والأمهات، كأنهم عميان، تقول الجدة العمياء، التي لم تر كل هذا الوباء، فقد تغير على أذنها وقع لحن نشيد خطوات حفيدها: ما بك يا ولدي كأنك تعرج؟
فأقول: إنها الحرب يا جدتي.

كانوا يخوفوننا بالعدو، ولم نعرف عدواً سوى الشرطة والمدرسين، وكان من المفارقات أن مدرستنا تشبه السجن، ولها باب حديدي أسود، وكان آذن المدرسة مسلحاً، وابنه أيضاً، وقد ورث منه مهنته، وكان يحدّها من الغرب السجن البلدي، ومن الشمال السجن العادي ومجمع البلدية، ومن الجنوب الطاحونة، وأسوارها العالية، ولم يكن بها شجرة أو عرق أخضر، ولو كان، لتحولتْ إلى عصي.

نجتمع نحن الأصدقاء في المنافي، ونتحسر على الجيل الجديد، الذي يقضي معظم نهاره وليله على وسائل الاتصال الاجتماعي، لا يعرفون معنى الاحترام ولا قيمة الخبز والملح، إنهم أبناء وسائل التواصل، وليسوا أبناءنا. نتبادل أنخاب الشاي، ونتذكر بحسرة قسوة الآباء والمدرسين أيام زمان ونمدحها، ويعرض كل واحد منا آثار العصي التي خلدت في جسمه كالوشوم، ونقول مرحى.. سلمت أياديهم.

 جميع أصدقائي قضوا حقبة من الزمن في السجن السياسي، الجميع معطوبون، فهد يعرج، أحمد لا ينجب بسبب دوالي الخصيتين، محمد كان طياراً، وهو بطل من حرب تشرين، فسجنوه لأنه كان بطلاً، وحولوه إلى أشلاء.

أتتذكر اليوم الذين عاقبونا على صناعة طائرات ورقية وزوارق بحرية ومسدسات بعينين؟
نعم، وجاءت المعلمة، وأخبرت المدير أن الطفولة والصبا مقترنان باللهو، وأن المعاقَبين هم الأوائل على الصف، وأن الطائرات والزوارق تعبير عن الحلم بالطيران والإبحار. صاحت فيهم: أنتم تذبحون مواهب أولادكم!

 ثم نقارن خسائرنا التي عوقبنا عليهاـ وخسائر زملائنا من التلاميذ، الذين خسروا طائرات البلاد كلها، ومعها أفخر قطعة من الوطن، حافظ الأسد، الذي فقد الجولان، ضرع سوريا، وجمال عبد الناصر الذي خسر سيناء الطاهرة!

 بل إن الإعلام رفع من شأنهما بعد الهزائم، وعدوهما أبطالاً، أما نحن، الذين فقدنا أعمارنا وأحلامنا وديارنا، فخونة وإرهابيون.

نشعل لفائف الدخان، لقد نسيت منفضة السجائر، أنادي على أولادي طالباً النجدة، وقد بحّ صوتي من زمان، لكن الجيل الجديد يعيش مسلوباً في عوالم التواصل الاجتماعي، ويضع سماعات على أذنه، أهمّ بالنهوض، فيمنعني محمد من اليمين، وفهد من اليسار:
– متعنا بنفسك يا أبا القروح، لقد آن لنا أن نستريح بعد كل هذا النصب والتعب.
 ويمزق فهد من غير إذني، صفحة من دفتر بجانبي، ويصنع مرمدة لدخان سيجارة فانتوم، وتستحق لجودة صنعها متحف اللوفر.

  نرفع أنخاب الشاي، نحن أبطال الطارئات الورقية، وللشاي أنخاب لا يعرفها سوى اليابانيون، ونتذكر زملاءنا الذين اعتقلوا، لأنهم حلموا بالطيران، أو الإبحار، أو السفر، والذين استشهدوا تحت التعذيب.
 وطيارات الوطن التي لم تُبقِ في البلاد، حجراً على حجر.