فرغت للمرة الثالثة من قراءة مجموعة مقالات يوسف إدريس التي كانت تُنشر في جريدة القبس الكويتية في عام 1983 والتي ضمها كتيب صغير بعنوان (البحث عن السادات) وكان من بين ما استرعى انتباهي هذه المرة، تصويره لآليات اتخاذ القرار داخل ما عُرف باسم مجلس الأمن القومي، فالكل يفرط لمجرد أن هذا يوافق هوى رئيس الدولة وشيئاً فشيئاً يتحول كلام رئيس الدولة إلى أوامر فرعونية لا تُرد!!

المشكلة الوحيدة في هذا الكلام في نظري هو أنه يصدر من ناصري ينظر بكثير من الإكبار لحقبة عبد الناصر وهو ما لم استطع استساغته. هذا نوع من التضارب بلا شك.

لكننا إن انتزعنا الكلام من سياقه المتضارب لأصبحنا أمام حقيقة بسيطة جداً، فكل ما تحتاجه لصناعة فرعون هو أن تحيطه بمن يوافقون على كل ما يقول !!

حتى ينمو فرعون، ستحتاج لإزالة أي صوت معارض في الأفق من حوله. ولذلك تعمل النظم العسكرية القمعية على كتم الأصوات وهو السبب الذي جعل الانقلاب يبدأ بوقف بث القنوات الإسلامية، بل كانت هذه الخطوة واحدة من أهم خطوات عملية الانقلاب، ولولا هذه الخطوة لاتسعت رقعة الاحتجاجات ضد الانقلاب من البداية.

ولهذا السبب نفسه تحاول الأنظمة مهما كانت ضعيفة في حقيقتها أن تظهر شديدة البطش والتنكيل بمعارضيها أو كما يقول المثل الشعبي (اضرب المربوط … يخاف السايب) هذه هي فلسفة الحكم التي تعرفها هذه الأنظمة وهدفها من ذلك هو أن تبث الذعر في قلوب من يفكرون في رفع أصواتهم. ويمكن القول إن بقاء الأنظمة القمعية هو محصلة لنجاحها في نقل رسالة الإرهاب إلى الشعب، فهي أنظمة تحكم بمعادلة الخوف وبالاعتقالات وبأنباء القتل والإعدامات. أنظمة جاءت على مدافع الدبابات وفوهات البنادق ولا تملك أدوات للحكم غير الإرهاب.

هذه الطريقة في الحكم تنطوي في الحقيقة على وهم. فأنظمة الحكم الجبري لا تستطيع توفير حارس لكل مواطن تحكمه وإلا كان عليها أن توفر شعباً جديداً ليراقب الشعب الذي تحكمه. الأمر لا يتم على هذا النحو، بل يخضع في جانب كبير منه للوهم. معادلة يحتل الوهم الجانب الأكبر من نتيجتها وكلما زادت حرفية النظام في صناعة الوهم كلما اتسعت رقعة سيطرته على الشعب وترسخت. ومعادلة الحكم هذه تعمل في اتجاهين، فالحاكم يظل يخشى الشعب ويظل في محاولة دائمة لزرع الرهبة في قلوب الشعب في الوقت نفسه ورسوخ حكمه هو في الواقع محصلة هذه المعادلة.

المشكلة دائماً هي أن الشعوب لا تدرك قدرتها على إخافة الحكام والنظم وتحتاج دائماً إلى من يرشدها إلى هذا. بعد الثورة في 2011 انتشر تسريب لمكالمة بين ضباط بالداخلية، يتحدثون عن (سيطرة الشعب على مقاليد الأمور) !

هذا الوعي الشعبي هو ما تخشاه النظم القمعية والمشكلة في هذا الوعي هو أنه لا يتجاوز في تاريخ الشعوب لحظات تعود بعدها تلك المؤسسات الواعية لمحاولاتها، لسلب هذا الوعي وتخدير الشعوب من جديد.

الشعوب في حاجة دائمة لمن يذكرها بأن الطاغية يخشاها وهذا فقط هو ما يدفع الشعوب للثورة، وهو ما نجده في انتفاضة الخبز التي أعقبت قرارات السادات برفع الدعم عن بعض أسعار السلع الغذائية.

نعم أيها المواطن الكادح المنكفئ على لقمة العيش !!

نعم رغم كل ما يبدو من قوة للأنظمة القمعية ورغم كل ما يبدو عليك من ضعف ورغم كل ما يثقل كاهلك من أعباء إلا أنهم يخشونك أنت!