يلتف بعض المتلحفين بعلم العسكر حول المنظر الثوري، وترتفع من حناجرهم صيحات الاستحسان.
حدثنا أيها المُنظر الثوري عن الفساد.

صيحات وووووو و (يييييييييييييي) .. نعم نعم عن الفساد

نريد أن نسمع طقطوقة عن الفساد

أصوات أخرى تتعالى من آخر القاعة:

بل (احكي) لنا عن الوحدة الوطنية أو حدثنا عن الدولة القومية ومؤسسات الدولة.

مستمع من آخر القاعة في حماس: نعم نعم (احكي) لنا عن انتصارات الجيش الوطني .. حدثنا عن معركة أكتوبر.

يزداد المُنظر الوطني انتفاشا وتنتفخ أوداجه ويبدأ في الحديث عن الدولة الوطنية ونضال الشعوب، ويمر سريعا على محمد علي ويتحدث عن انقلاب يوليو باعتباره ثورة الشعب، وعن هزيمة أكتوبر باعتبارها نصرا استعادت فيه مصر مكانتها.. إلخ.

في عقول كل من يستمعون لتلك الوصلة التخديرية أسئلة تتراكم في عقله.

أحدهم يسأل نفسه: هل هكذا أراد الله لنا أن نكون؟

دويلات صغيرة تضع حدودا بينها، يقف عليها الحرس ليطلقوا النار على من يفكر في اجتيازها ؟

أحدهم يتذكر ما قرأه عن الضباط البريطانيين الذين رسموا الحدود، ثم ما يلبث أن يدفن الفكرة التي تشوش على ما يستريح لسماعه.

فتاة في آخر القاعة تشرد وتتذكر ما قرأته في إحدى الصحف عن أرقام الأسرى الذين أسرهم العدو في هزيمة أكتوبر، والذين تجاوز عددهم الثمانية آلاف.

تخرجها زميلتها من شرودها وهي تحدثها عن الحديث الباطل (خير أجناد الأرض).

تنظر إلى المُنظر الثوري وهو ينهي محاضرته بجمل عن (الجيش الوطني)، الذي يجب استعادته من خاطفيه!!!

حالة من التخدير ومعتقدات صنمية أقرب لعقيدة بديلة زُرعت زرعا في عقول الناس، وقليل من يفيق منها.

هذا يا سادة هو فعل الإعلام.

كان على من أقاموا دويلة سايكس بيكو واقتطعوها من الخلافة الإسلامية، أن يقيموا جدارا من الحماية حول تلك الدويلة، خطوط دفاع كان العقل فيها هو الجندي الأول في المعركة.

كان على الإعلام أن يغرس مفاهيم جديدة دون أن يصطدم بالثوابت.

اعرض لهم النساء العرايا والرجال المخمورين في الأفلام، دون ان تمس الدين.

قم بإلغاء المحاكم الشرعية وأحكم سيطرتك على الأزهر، وفرغه من مضمونه دون أن تظهر معاديا للدين.

تحالف مع العدو وحرك حربا يتلاعب فيها كيسنجر وديان بشباب المسلمين كقطع من الدومينو، ثم التقط صورا وأنت على سجادة الصلاة ودع الصحف تكتب عنك الرئيس المؤمن.

اخطب في مولد النبي عليه الصلاة والسلام (وهو ما لم يحتفل به النبي عليه الصلاة والسلام ولم يرد عنه ذلك)، ثم اذهب لتناول العشاء مع شارون قبل أن تخلعك الثورة.

ماتريكس يعيش فيها هؤلاء المساكين.

ماتريكس كنت أنا أيضا أعيش فيها، منذ فترة قدمت حلقة بث مباشر عن فكرة البانوبتيكون التي تقوم على إيهام المساجين بأنهم تحت الرقابة 24 ساعة، لزيادة التحكم فيهم وكيف راسل رجل فرنسا محمد علي عالم الاجتماع البريطاني صاحب الفكرة وكيف طبقها في مصر.

أنت تُعامَل كالمساجين ولكنك لا تدرك هذا، فعقلك حبيس الأسوار التي صنعوها.

لستَ وحدك في هذا، بل هناك كتاب وصحفيون وإعلاميون وسياسيون، يرددون المصطلحات نفسها التي يصبها إعلام العسكر في آذانهم منذ سنوات.

كتبتُ منذ سنتين أقول إن عسكري الانقلاب هو آخر سلسلة العسكر، الذين سطوا على مصر منذ انقلاب السي آي إيه في يوليو 1952.

كان ذلك في مقالي (حكم العسكر.. من السد العالي إلى اللمبة الموفرة).

كان استقرائي وقتها مبنيا على المستوى العقلي المنحدر، الذي يظهر كلما تكلم عسكري الانقلاب.

كان الانقلاب بمنزلة القشة التي قسمت ظهر دويلة العسكر دون أن يدركوا هذا. الأمر أقرب إلى من يقود سيارة ويسعى لقتل شخص ما، يقف قرب جرف يطل على هاوية.

فعلى الرغم من نجاحه في إصابة ذلك الشخص بكسور أقعدت جسده قليلا، إلا أن سيارته أصبحت على حافة الجرف، والجرف بدأ في التشقق والتهاوي.

سيدرك الكسير الراقد غير بعيد من السيارة، أن الاحتلال هو من أنشأ ذلك الجيش. وأنه لا وجود لما زرعوه في عقله، إنما هي أوهام.

سيعلم حين يتهاوى النظام الإقليمي كله.

سيعلم حين يصل الدولار إلى 16 جنيها.

سيعلم حين يبحث عن السكر فلا يجده.

سيعلم حين يعاني من المجاعة.

وفي أثناء كل هذا، سيزداد تشقق صخور الجرف، ثم ستسقط السيارة براكبها من العسكر لتتحطم على الصخور.

حفل سايكس بيكو الذي دام مئة عام قارب على الانتهاء، وما قانون جاستا إلا بداية تقسيم المقسمات، وما القصف الروسي في سوريا والقصف الأمريكي في العراق، إلا بدايات تقسيم المقسمات.

سيدرك هؤلاء المتغنون بأوهام الدولة القومية أنها وهم صنعه لهم المحتل.

سيدركون كل هذا، ولكن هل يدركونه قبل أن تهوي بهم؟