البعض يستطيع تفسير تلك الإشارات الصغيرة القادمة من أحداث صغيرة ليصنع منها دلالات ما ربما كانت صحيحة.

خذ عندك مثلا حادث جامعة الفيوم منذ يومين. نائب في برلمان العسكر تشاجر مع إحدى حارسات الأمن وكانت النتيجة أن الطلبة قلبوا سيارته وحطموها.

البعض قد يرى هذا حادثا عاديا، لكنك لن تستطيع أن تؤكد أنك منصف إن استبعدت كل دلالة سياسية للحدث.

دعك من أن القصة كما يرويها بعض أهل الفيوم تختلف في كثير من تفاصيلها عن ذلك التناول الإعلامي الذي عُرضت به في إعلام الانقلاب، فالعامل الأهم من كل هذه التفاصيل هو أن الطلبة حطموا سيارة من يعلمون أنه نائب في برلمان العسكر.

دولة بلغ فيها القمع حدا وحشيا ويصل التنكيل فيها بمناهضي الانقلاب حد القتل، ويوصم فيها حتى الصحفيون المناهضون للانقلاب بـ “الإرهاب”.

دولة لا يأمن فيها حتى أخلص داعمي الانقلاب على نفسه من تقلبات الانقلاب المزاجية. حين تقرأ في هذه الدولة عن (طلبة جامعة) يحطمون سيارة نائب في برلمان العسكر قادر على التنكيل بهم، فأنت بصدد حدث استثنائي في دلالاته.

صحيح أن الانقلاب يستطيع بالقوة فقط أن يفرض ظاهريا كل مظاهر الدولة، بحيث يبدو في الظاهر أن كل شيء على ما يُرام، ولكن هذه القوة تحتاج إلى رضا.

الانقلاب يريد تحويل اللامبالاة إلى تفاعل، وعدم الاكتراث بما يجري إلى مشاركة، بل إن الانقلاب في أكثر من مناسبة حاول استثمار تلك الأصوات التي تبدو أنه تعارضه (من الداخل)، فهو بحاجة إليها ليتوازن، وليظهر بمظهر “حكومة” طبيعية تحوز موافقة الأغلبية ويعارضها “البعض”.

ما يسعى الانقلاب إليه هو نوع من التطبيع مع الواقع وطي صفحة الثورة.

ولذلك، فإن حادثا مثل حادث الفيوم، لابد أنه سيزعج الانقلاب بشدة، لأنه ربما يشير إلى وجود غضب مشتعل تحت السطح، وهذا الغضب حتى لو كان مجرد احتمال هو أمر مزعج للانقلاب بدون شك.

وهذه الحادثة وإن كانت أقل من حادثة منع الأهالي لأحمد موسى من حضور جنازة والده، لكنها تحمل دلالات شبيهة نوعا ما، ولذلك حرص الانقلاب على بث صور أحمد موسى في عزاء والده، وهذا الحرص هنا لا علاقة له بمحاولة إنقاذ صورة أحد أشخاص الانقلاب، بل إن الأمر يتعلق بصورة الانقلاب نفسه.

هذه الرغبة في التطبيع، وهذه الرائحة التي تستطيع مؤسسات الانقلاب أن تشمها من وقت لآخر، وهذه الدلالات التي يجيدون قراءتها ويحذرونها، هي التي تدفعهم إلى محاولات استدراج المعسكر الرافض للانقلاب للمشاركة في مهزلة انتخابات العسكر 2018.

الانقلاب يرى أن فترة 4 سنوات كافية لطي صفحة الثورة، ولأن يصل بالمعسكر المناهض للانقلاب إلى درجة من اليأس تدفعه للقبول بالأمر الواقع.

والانقلاب لا مانع لديه في أن يخرج أحدهم ليوجه أشد الانتقادات لعسكري الانقلاب وليعلن ترشيح نفسه في انتخابات العسكر لينتصر عليه في النهاية ولو بفارق مناسب يستطيع أن يقنع به جمهوره.

الانقلاب يريد تحويل حالة السكون التي (ربما) تسبق العاصفة (أو على أقل تقدير التي ربما تدل على وجود احتمالات لعاصفة) إلى حالة مشاركة وتفاعل. يريد تحويل الغضب من الانقلاب إلى أدرينالين انتخابي. يريد تحويل الثورة إلى معارضة. يريد تحويل (الانقلابي) إلى (مرشح منافس).

لا مشكلة لدى الانقلاب في أن تكرهه، ولكنه يريد أن تعارضه من الداخل، وأن تجلس معه تحت نفس السقف، وأن تعارضه باعتباره “شرعيا”.

لا يريد أن يشعر أنك تقاطعه. لا يريد أن يشعر أنه منبوذ مرفوض. لا يريد أن تتحول اللامبالاة إلى مشروع تغيير. يريد طي صفحة الرئيس مرسي.

المشاركة في مسرحية انتخابات العسكر هي قبلة الحياة التي يريدها الانقلاب. ولذلك، فإن مفتاح أي حراك قادم والأرضية الصلبة التي نستطيع أن نضع عليها أقدامنا هي مقاطعة كل إجراء يسعى إليه الانقلاب.