لطالما تغذت السياسة الإماراتية على بؤس نظيرتها السعودية. إذ كان حكّام أبوظبي يقدّمون بلدهم في صورة القرية الهادئة والمسالمة التي يسكنها أناسٌ مسالمون ومحبّون، والواقعة على بعد خطواتٍ من غابة موحشة ومظلمة يستوطنها متطرّفون، ويحكمها ملكٌ هرمٌ يسنده دعاة دين متعصبون تجاه من هم في الداخل، وخطرون على من هم في الخارج. ولعل أهم من عبّر عن وجهة النظر هذه سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، الذّي لم يدّخر صفةً سلبيةً إلا ونسبها لجيران بلاده “المتخلّفين” عن ركب الحضارة والتنوير والتحديث، كما تراه أبوظبي. 
المستجدّ اليوم أمر لم يكن يخطر ببال أحد، إذ انتقلت الإمارات من دور المستثمر في أخطاء السعودية وتحويلها إلى موارد سياسية وقرابين للتقرّب من الغرب، إلى دورٍ تدخلّي يُراد منه فتح السعودية، وحمل مهّمة تحضيرية على طريقة وليّ عهد أبوظبي، محمد بن زايد. فبجهود حثيثة ظاهرة ومبطّنة، تتغلغل أفكار أبوظبي في جسد الدولة السعودية، مستغلّة بذلك حيرة شابٍ طموح على مرمى حجر من كرسي الملكية. ومن سوء حظّ الأمير الشاب، محمد بن سلمان، أنّه يتعلم أفكار مدرسة الإمارات “التنويرية” على طريقة محمّد بن زايد، المعروف بشخصيته الأمنية المائلة نحو البوليسية الشمولية، التي تخفي وراء أبراج الإمارات الساحرة إرثا مظلما من القمع السياسي، والإخفاء القسري، والنفي، وسحب الجنسية، وغير ذلك من الممارسات الاستخباراتية الناتجة عن تغوّل الدولة وشخصنة السلطة السياسية. 
ولعل أوّل درس يتعلّمه محمّد بن سلمان من معلّمهِ هو إخلاء الساحة السياسية من المنافسين  

الواقعيين والمحتملين، سياسيين كانوا أم مشايخ دين ووعاظاً كانت لهم حظوة ورأي مسموع لدى السلطة السياسية. وقدّ تمّ هذا الأمر تحت مسمّيات دعائية برّاقة، مثل حريّة المرأة ومكافحة الفساد. وليس غريباً أن نسمع قريباً تصريحات إماراتية تُنسب فيها هذه “الإنجازات” إلى تفتّح أبوظبي وتنوّرها، فقد أُريد من هذه الإجراءات إيجاد ملكٍ سعودي كليّ القدرة، تابع لمعلّميه الإماراتيين. وكذا علاقات دينية سياسية تشبه الموجودة في أبوظبي، حيث تُصادر السلطة السيّاسية قداسة الدّين، وتمنع أي تنازلاتٍ سياسيةٍ أو حظوةٍ لصالح المؤسسة الدينية. 
إضافة إلى ما سبق، يُراد للملك المستقبلي للسعودية أن يكون رجلاً خائفاً من مُحيطة الإقليمي، ومن مغبّة وصول إسلاميين إلى سدّة الحُكم في أي بلد عربيّ كان، فالإمارات ترى في نفسها النور الوحيد في الشرق الأوسط، والذّي يتآمر الجميع لإطفائه، خصوصا التيارات الإسلاميَة التّي تشكّل تهديداً مباشراً لحكّام أبوظبي. وهذا ما يبرّر الطابع الهجومي والتدخلي لسياستها الخارجية في بيئاتٍ عديدة. وإذا صحّت المقارنة، يُمكن القول إنّ الإمارات العربية المتحدّة ترى في نفسها إسرائيل ثانيَة، فالأخيرة تصوّر نفسها ديموقراطية الشرق الأوسط الوحيدة المحاطة بمجتمعات بدائية وأنظمة سياسية استبدادية، وجيوش توّجه لقتل شعوبها. هذا الإحساس الزائف بالسمو القيمي والتميّز ما تريد أبوظبي أن تعززّه وتجعله موجها لسياسة الملك المرتقب، الشاب المُطالَب بأن يصنع نسخة مكبرّة عن أبوظبي. 
ما يُلاحظ في الفتح الإماراتي للسعودية أنّه يحمل رسالةً حضاريةً وتنويرية اختزالية وانتقائية. فالتنوير لا يبنى بشواطئ البيكيني، وتصفية الخصوم، واستغلال بيروقراطية الدولة لسلب الناس أموالهم، وإيجاد طبقة من رجال الأعمال الموالين للملك القادم، والذّين يتشاطرون معه عقيدة التخوّف من الإسلاميين، والتقرّب من إسرائيل. النسخة الإماراتية عن التنوير خاليَة من الديموقراطية، وحقوق الإنسان، ونابذة للتعدّدية، ودافعة نحو تفتّحٍ يعدّ بمثابة الباس قشرة ليبرالية لجسد سياسي متصلّب، يُلغي فكرة الديموقراطية من حساباته. إنّه التفتح الذي يُعجب وسائل الإعلام الغربية والزوّار الأجانب، ويتحايل على المجتمع ومُعارضي النظام في آن واحد. إنّه البيكيني على جسد الشموليَة. 
تريد الإمارات العربية المتحدّة أن تقنع العالم بأنّها الحصن المُسالم الوحيد في الشرق الأوسط. وأنّها الدولة القابلة للتطوّر وسط ملكياتٍ ودول أميرية هرمة. ولعلّ الأزمة الخليجية الراهنة تُثبت، إلى حدّ ما، هذه النزعة الإماراتية، خصوصا أنّ قطر تُحاول جاهدة التأثير، عبر قوّتها الناعمَة، والمنافسة بالمستوى المعيشي فيها، وكذا نظامها التربوي. هذه المزايا التي ترفض أبوظبي أن تتوفر عند غيرها، كما ترفض فكرة أن تسحب قطر بساط التميّز والتفرّد منها، إذ لا يُسمح للدوحة أن تنافس دبي، كما لا يُسمح للقيادة السياسية القطرية أن تشكّل تحدّيا لخطط أبوظبي حول شكل المنطقة، وشكل أنظمة الحُكم فيها. 
ليس هدف الإمارات من إعادة تشكيل السعودية في إيجاد “برستيجٍ” يلازم سمعتها، وإنّما في 

ابتلاع السعودية عبر مدخل ملكها القادم. فأبوظبي لا تكتفي بهندسة نظام الحكم في السعودية على الطريقة التّي تُعجب الغرب، بل تعمل على التغلغل في مؤسسات الدولة السعودية، والتأثير في توجهاتها الخارجية، وكذا رسم مواقفها من قضايا المنطقة والعالم. وقد لا يكون الأمر مبالغة في القول إنّ الإمارات تريد أن تجعل من السعودية إمارة جديدة تأتمر وتنهي بأوامر قادة أبوظبي. 
الخطير في المشروع الإماراتي لابتلاع القرار السعودي تعرّض العلاقات بين أبوظبي والرياض إلى عطب مزمن في حالة فشل محمّد بن سلمان في الوصول إلى السلطة. عَلماً أنّ أمراء آل سعود ليسُوا كلّهم من معجبي ولي عهد أبوظبي، وليسوا على موقف واحد من مشروع “أَمرتَةْ” المملكة العربية السعودية. إنّ تعذّر وصول بن سلمان إلى كرسي العرش سينسف علاقات حلفاء اليوم؛ بل ليس مستبعدا كذلك أن نشهد نسخة أخرى من الأزمة الخليجية، تُستبدلقطر فيها بالإمارات. كما تَكمن خطورة هذا المسعى الإماراتي في إعادة تعريف الخليج، والعمل على إفشال مجلس التعاون الخليجي، عبر التشويش على أدوار كل من قطر والكويت وكذا سلطنة عُمان. واستبدال فعالية هذه المؤسسة الإقليمية الواعدة بقرارات ثنائية تنسج بين أبوظبي والرياض، مع إشراك البحرين فاعلا مضغوطا عليه بملفاته المحليّة وفوبيا وصول إيران إلى الداخل، وتمكن المعارضة “الشيعية” من إسقاط النظام الحاكم. 
في الختام؛ المشروع الإماراتي لفتح السعودية متوقّف على وصول محمّد بن سلمان إلى الحكم من جهة، واستمرار ولائه لأبوظبي من جهة أخرى. ومن شأن أي خلل يُصيب هذه الثنائية إعادة تشكيل السعودية انطلاقا من موقف سلبي ورافض، بل معادٍ لأي نفوذ إماراتي في العربيَة السعودية.

 

المصدر:”متابعات”